مقالات وآراء

عن الإعلام السوري والاستيقاظ المتأخّر: انقلابٌ أم جرعة تخدير؟

إذن لا خطوطَ حمراء في الإعلام الرسمي السوري بعد اليوم، ولا مُحاباة لأيّ مسؤول.

 

عبارتان أشبهَ بالزادِ الذي نتزوَّد بهِ قبلَ أن نخوضَ معركة الكلمات لبناءِ سطورِ هذه المادة، كيف لا وقد وردتا على لسانِ وزير الإعلام عماد سارة في المقابلةِ الأخيرة المُسجّلة والتي بثَّها التلفزيون العربي السوري قبل أيام.
مقابلةٌ سبَقها ضخٌّ إعلامي كبير من قبلِ الصّفحات والمواقِع الخاصة بالإعلام الرسمي أو العاملينَ به، وتلاها انقسامٌ كبير شكّلَ طرفهُ الأول ذات الصفحات التي تحوَّلت إلى ما يشبه سوقَ عكاظٍ في التعاطي مع المقابلة وما جاءَ فيها من وعودٍ، وبين فاقدٍ للثقة بهذه الوعود.
بدا كلا الطرفين محقٌّ ومخطئ بذات الوقت إن كان لجهةِ الإفراطِ في التفاؤل أو الإمعانَ في التشاؤم بإقبالنا على مرحلةٍ جديدة، ولكي يكون الرأي موضوعياً لابد من الإجابةِ على التساؤلات التالية:
أولاً: هل جاء وزير الإعلام بجديدٍ يتخطى «حدود الشفافية»؟
نظرياً كان لافتاً أن المذيع المُحاور والضيف أكدا مراراً خلالَ اللقاء بأن الحديث سيكون بمنتهى الشفافية، لكن عملياً لا يكفي أن تضعَ توصيفاً لما سيكون عليهِ الكلام، الأفضل أن تترك للمشاهد اكتشاف التوصيف الحقيقي.
إن مصطلح الشفافية تم وضعهُ في التداول منذ تموز في العام 2000 خلالَ خطاب القسم الأول للرئيس بشار الأسد، لن ندخلَ هنا في متاهاتِ المصطلح الطويلة والتي تتجاوز فرضيةَ قول الحقائق كما هي إلى أحقيةِ الحصول على المعلومة كما هي تحديداً بما يتعلق بالحركتين الإدارية والمالية للقطاع العام، لكننا سنسأَل ببساطة: هل يعني أن المواطن انتظر فقط عشرينَ عاماً ليخرج من يتحدث إليهِ بشفافية؟
الجواب حكماً لا، لأن ما جرى الحديث عنهُ من مشاكل وثغرات في الإعلام موجودة ويعرفها المواطن السوري، وهو أساساً لم ينتظر أحداً ليعترفَ بها طالما أن الرئيس بشار الأسد نفسهِ اعترف بها عدةَ مراتٍ، بينها حديثه لصحيفةِ «الوطن» نهايةَ العام 2016 وتحديداً جوابه على سؤال الزميل رئيس التحرير: ما الذي يمنع اليوم أن يكونَ لسورية منبر إعلامي وطني قوي يمكن أن يتابعه كل السوريين؟
أي إن كلام الوزير منطقي وعقلاني، لكنه لا يرتقي عملياً لمستوى «الشفافية المطلقة» فالشفافية ليست بقول إننا تجاهلنا أزمة المحروقات لأسبابٍ معينة، الشفافية بأن أتحدث عن هذه الأسباب ولو برؤوس أقلام، الشفافية ليست بالقول إن هناك وساطات في الإعلام السوري، الشفافية هي بالتوضيح لماذا يتم تمريرها، ومن الذي سيضمن الحد منها؟
ثانياً: ما أسباب فقدان الثقة بالإعلام الرسمي؟
لعل هذا السؤال مرتبط نظرياً بتوصيف الشفافية، لأننا عندما نتعاطى بشفافية مع الانتقادات من مبدأ «طوبى لمن أهدى إليّ عيوبي» سيكون حلها بسيطاً ومنعها من التراكم، فمثلاً إن المقاربة التي وردت في المقابلة بين نظرة الحكومة للإعلام ونظرتها لمعمل الكونسروة بحاجةٍ لتوضيح، مقاربة وإن أخذت طابع «المزحة الخفيفة» فسنتعاطى معها بإطار «المزحة الخفيفة»:
معمل الكونسرة عملياً يتم إنشاؤه في المناطق التي يتم فيها الاستفادة من وجود منتجات زراعية لتأمين تصريف المنتج الزراعي للفلاحين وتحقيق دورة اقتصادية زراعية، صناعية، تجارية، فلو طبقنا هذا الكلام على الإعلام وسألنا: أين هي المنتجات القيمة التي استقطبها الإعلام الرسمي؟ هل وصلتكم حكايا نجاحات الإعلاميين السوريين في الخارج قبل التحسر على ضياع الخبرات القادرة على إدارة التأهيل والتدريب؟
مقاربة تجعلنا نقول ليت الحكومة فعلياً تعاطت مع الإعلام كما معامل الكونسروة لأنها في الحالة الثانية أغلقَت الكثير من المعامل الخاسرة التي فقدت منتجاتها ثقة المواطن لأسبابٍ عديدة أهمها الفساد!
أما ربط الأمر بالابتعاد عن هموم المواطن مقروناً بتحميل الحكومات السابقة المسؤولية عن ذلك هو ببساطة هروب للأمام لأن السؤال المنطقي عندها: أين كنتم منذ صيف 2016 حتى اليوم؟
من جهةٍ ثانية فإن تسويق الخطوة الإصلاحية في الإعلام لاكتشافنا أن الطرف المعادي طوَّر الحرب الناعمة ضدنا سيجعلنا نتساءل: وهل هذه الحرب توقفت أساساً عن التطور؟ إن الحرب الناعمة بمفهومها الواسع «الحرب عن بعد» كانت ولا تزال قائمة منذ عقود، بل إنها ومنذ بداية الحرب على سورية بدت أكثر وضوحاً، ثم هل تذكرنا فجأةً ثقةَ المواطن ورأيَ المواطن حتى نقوم بحملةٍ كي نبدأ بحثنا عن آليات تطوير الإعلام، ماذا كانت تفعل الصفحات المنسوبة لمؤسسات وزارة الإعلام؟ ألا تشكل التعليقات التي كانت تُكتب على صفحات الوزارة جزءاً من استبيان الرأي العام؟ طبعاً باستثناء تعليقات العاملين في القطاع والذين يمدحون مؤسساتهم، وكيف كان يتصرف من يديرون هذه الصفحات عندما يكون هناكَ بث مباشر لأحد البرامج على صفحات «فيسبوك»، فترى أن الحاضرين للبث بالعشرات بينما قد يرتفع الرقم أضعافاً مضاعفة فيما لو كان البث متعلقاً بخطابٍ للسفير بشار الجعفري مثلاً! هذا العزوف عن المتابعة ألم يكن مؤشراً عميقاً إلى الحال الذي وصل إليهِ هذا الإعلام؟
ثالثاً: ماذا عن الربط بين تضحيات الجيش العربي السوري والحالة الإعلامية؟
نتفق جميعاً إن صمود الجيش العربي السوري هو صمود لجميع السوريين، ودماء الشهداء هي المشعل الذي ينير دربنا القادم، لكن ببساطة لا يمكن لأي جهةٍ أن تُسوِّغَ أي تقصيرٍ وتحميله على دعم الجيش وأُسر الشهداء، كان يمكن القول إن مشكلة الصورة تحتاج لمورد مادي وهو ليس متوفراً حالياً، لكَانَ المواطن تقبل الأمر بالطريقةِ التي تقبَّل فيها شفافيةَ وزارة الكهرباء بالحديث عن التقنين، تحديداً قضية الصورة تُصبح ثانوية عند المواطن في حالِ كان المحتوى الإعلامي مغرياً، لكن الربط بينَ تعذر إصلاح رداءة الصورة بأولوية توفير المال لدعم الجيش العربي السوري وأسر الشهداء مقاربة ليست موفقة، ثم أليس الإعلام نفسه أعلن قبل عام تقريباً إنجاز رؤية بصرية جديدة للقنوات التلفزيونية الرسمية وهلّل للمشروع من هلّل أين هو الآن، ماذا أضاف للإعلام بمستويات المحتوى والصورة؟
واقع الأمر، كما إننا نتفق أن النقد البنّاء والموضوعي لا علاقةَ له بالشخصنة والإساءة للأشخاص، فإن دماء الشهداء لا يمكن اعتبارها مانعاً لانتقاد أي مؤسسة حكومية كما اعتادَ البعض أن يقنعنا عندما يطال النقد الإعلام الرسمي، لأن ما من جهة عامة لم تتعمد بدماء الشهداء فهل يعني هذا الكلام أن الجمارك والكهرباء والتربية لا يمكن انتقادهم لأنهم ببساطة قدموا كمؤسساتٍ الكثيرَ من الشهداء، بذات الوقت لا أحد يستطيع أن يختصر مؤسسة بذاتها، فانتقاد إعلامي أو مذيع أو برنامج لا يمكن ربطه ببساطة بالإساءة للإعلام، فالإعلام السوري كمؤسسة حكومية لها قدسيتها الدستورية، إهانتها من إهانتنا كسوريين، أما القائمون على هذا الصرح فهم حكماً لا يختصرون قداسةَ مؤسساتنا الدستورية، من هنا نتفق جزئياً على فرضيةِ أن الإعلام السوري ليس فاشلاً لكنه ببساطة كان عاجزاً حتى عن امتلاك ثقة الكثير من السوريين، وفي كل يومٍ نتأخر فيه بالانقلاب على البيروقراطية الإعلامية فإننا نقترب بهدوء من العجز إلى الفشل.
رابعاً: ما الاستراتيجية القادمة؟
تمنيتُ كمواطنٍ عربي سوري لو أن المذيع المحاور سألَ هذا السؤال في بدايةِ المقابلة وليس في آخرها كي لا نصطدم بجوابٍ من قبيل: الوقت لا يتسع لشرحها!
باختصار هناك عناوين عريضة من بينها أن يكون إعلام وطن ومواطن، وإعلام دولة وأن يتناول هموم المواطن دون محاباة المسؤول على حساب المواطن، هذا يعني أن لا جديد في هذه الاستراتيجية لأننا لو راجعنا الفكرة الأساسية لإنشاء أي إعلامٍ رسمي فستكون حكماً قائمة على أفكارٍ مشابهة لكن العبرة دائماً بالتطبيق، فلا أعتقد مثلاً أن الإعلام السوري في الحكومات السابقة كان مبنياً على فكرة أن يكون الإعلام في خدمة المسؤول بل الأدق إن هناك من وظفهُ في خدمة المسؤول.
في الخلاصة: إن الاستراتيجية القادمة يجب أن تنفّذ على عدةِ محاور أولها خلق حالةٍ من الرأي والرأي الآخر في جميع المجالات، والسعي لتطويرِ قانونٍ إعلامي جديد يحمي الصحفي ويمنع تحويله إلى موظف يخاف لقمةَ عيشهِ، أو طامح ومتسلق بأبشع وسائل الدونية، والأهم الكفّ عن توزيع شهادات الوطنية لكل من يغرد خارج السرب، عندها فقط نحن لا نحتاج لأي إستراتيجية لأن لدينا شعباً أظهر بشكلٍ واضح أنه أوعى بكثيرٍ من الذين يسمون أنفسهم «نخباً مثقفة».
لا يسعنا أبداً إلا أن ننتظر الانقلاب المنشود، لكن هذا الانقلاب يجب أن يكون محسوساً وبأسرع وقت لا أن يكون حالهُ حال مصطلح الشفافية، أو باسترضاء المشاهد ببرنامج هنا أو هناك يسلط الضوء على قضايا الفساد التي يعرفها المواطن، لأن هذا الشعب يستحق فعلياً ما جاء في سؤال الوطن منذ عامين ونصف: منبر إعلامي وطني قوي يمكن أن يتابعه كل السوريين… كل السوريين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock