مقالات وآراء

الصدام الأميركي الإيراني وتجليات الصمت: عندما يترنّح «الإعلام المقاوم»

يُقال إنَّ الصمتَ أَبلغ، لكنّ هذهِ العبارة لا تبدو دائماً صادقةً فمثلاً قد يكون الصمت ضرورياً لأن هناكَ أولويات تحديداً في المعارك الكبرى، كأن نصمتَ مثلاً عن الطريقةِ «الهزلية» التي تعاطى فيها ما يسمى «الإعلام المقاوم» مع موتِ راعي كهنةَ تشريعِ الجهاد في سورية الرئيس المصري السابق محمد مرسي، تعاطٍ جعلنا نتساءل: هل حقاً إن ما قرأناهُ وما شاهدناهُ مجردَ وجهاتِ نظرٍ بالرجل والخط المتطرف الذي يمثلهُ، أم إن الموقف من كل ما يمت بصلة للإخوان المسلمين بات مبنياً على فرضية: قل لي من يُمولك أقل لكَ من أنت، تحديداً أن فكرةَ محاباتك لمجرمي الإخوان الشياطين قد تجعلك ببساطةٍ تجمع بين طرفي نقيض الأول يراهم كجناحٍ من أجنحة «الصحوة الإسلامية»، والثاني يراهم كجناحٍ من أجنحة «الصحوة العثمانية»؟
اللافت أن من بينهم ما انفك يشرِّعَ وسيلته الإعلامية ليلَ نهارٍ لتقرِّيعِ الإعلام السوري، من دون أن ننسى توَرم البعض فكرياً ليعطينا دروساً في آليةِ الخروجِ من الأزمة السورية، لسنا راضين عن أداء الإعلام السوري لكن هذا الإعلام لم يهلِّل لإرهابيي الناتو وهم يُسقِطون الراحل معمر القذافي رحمه الله، هؤلاء بما يمثلونَ سبقهم الزمن لم يستطيعوا بعد التأقلم مع فكرةِ أننا عندما لا نكون راضين عن الإعلام السوري فنقول رأينا كسوريين بصراحة، على حين هم ما زالوا يحاضرونَ بنا بالرأي والرأي الآخر، هل بات اجتماع عشرات الآلاف في أستادِ القاهرة بحضورِ أكثرَ من 500 إرهابي بمرتبة «رجل دين» يشرِّعون الجهاد في سورية ويباركهم المجرم محمد مرسي رأياً آخر؟
إياكَ أن تحاولَ المساس بـ«إِعلام مقاوم» كهذا، عندها قد تكون مرتبطاً بجهات استخباراتية قد لا تكفيك كل الكتابات لتتبرأ منها، بما فيها أن تضعَ على جدرانِ غرفتك صورةً لما يسمى «الإعلام المقاوم» بجانبها مجموعة من المال بعنوان: الصحافة والوحش!
من جهةٍ ثانية فإن الصمتَ قد يكون دليلَ إفلاس، تحديداً عندما تقودك الصدمة لضياعِ الكلمات والتعابير ولعل المثال الأكثر وضوحاً اليوم هو الحال الذي وصلَ إليهِ السائرونَ في الركبِ الأميركي دونما استثناء، فأيتام جاريد كوشنير وأمراء الحرملك، باتوا في حيرةٍ من أمرِهم بعد أن اتجه التصعيد الأميركي الإيراني إلى النحوِ الذي لا يرغبون فيه، بل هو في أسوأ سيناريوهاتهِ كيف لا وحطامَ طائرة الاستطلاع الأميركية التي أسقطتها منظومة «خرداد» الإيرانية تناثرت لتتناثر معها طموحاتِهم بالاستيقاظ وهم يرون صواريخ دونالد ترامب تدك معاقلَ القوةِ العسكرية الإيرانية؟
قيلَ وحُكي الكثير عن إسقاط الطائرة بما فيها الكلام عن النجاح الاستخباراتي الإيراني الذي تبدو معهُ عمليةَ الإسقاط نتيجة لا أكثر، لكن في الوقت ذاته علينا الاعتراف أن الحدثَ على أهميتهِ استفادَ من دقةِ اللحظة وفرضَ نفسه من خلال عملياتِ التسخين والشحن في المنطقة والعالم، وربما لولا هذا التسخين لمرَّ الحادثَ مرورَ الكرام وبمعنى آخر: لقد سبق أن قام الجيش العربي السوري ربيعَ العام 2015 بإسقاطِ طائرة استطلاعٍ أميركية من نوع «بريديتور» حلّقت في سماءِ اللاذقية، يومها مرّ الحدث مرورَ الكرام بل من اللافت أيضاً أن من تعاطوا مع حدث إسقاط إيران للطائرة الأميركية تعاطوا معه وكأنه يحدث للمرةِ الأولى في المنطقة، كذلك الأمر فإن حدث إسقاط طائرةِ استطلاعٍ في معنى الصفعة العسكرية وضرب الهيبة هو أقل بكثيرٍ من حدثِ حجز زوارق لعسكريين أميركيين داخل المياه الإقليمية الإيرانية مطلع العام 2016 واقتيادهم إلى البر الإيراني، يومها مر الحادث بسلام لأن العلاقة بين كلا الطرفين كانت في الحد الأدنى جيدة مهما حاولا ادعاءَ العكس، لدرجةِ أن وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري طلب من نظيره الإيراني محمد جواد ظريف إطلاق سراحهم بعد ما حكي عن اعتذارٍ ضمني قدمه كيري لظريف بسبب تجاوز العسكريين المياه الإقليمية الإيرانية.
على هذا الأساس لا يمكن البناءَ على هذا الحدث واستشراقَ القادم فيما يتعلق بمصير المواجهة أو التهدئة المحتملة بين إيران والولايات المتحدة، تحديداً وسط الانقسام الحاصل في طريقةِ التعاطي معه، فالمستفيدون من تضخيمه هم المستفيدون من فكرةِ الحرب ويريدونها أن تندلع بأي طريقةٍ ولعلنا نختصرهم بالمحور الإسرائيلي السعودي، فكلاهما لا يخفي رغبته في قيام الحرب اليوم قبل الغد، علماً إن المنطق يقول إن كليهما الأقرب عملياً لدفع ثمنها وأثمانها، فالجميع بات يعرف أن حرباً كهذه لا يمكن لها أن تكون موضعية ومحصورة في بقعةٍ جغرافيةٍ، والأهم من ذلك جهلهم الاستخباراتي بما يخبئه الحلف المقابل من مفاجآتٍ أهمها على الإطلاق سلاح الصواريخ.
كذلك الأمر هناك طرف مستفيد من تضخيمِ وتهويل حالة الحرب وكوارثها ويريد بأي طريقةٍ تصفية حساباته مع الترامبية السياسية قبل الإيراني، هذا الطرف يمثله أولئكَ الذين لم يتمكنوا من كسبِ الصداقة الروسية وخسروا الصداقة والمصداقية الأميركية في التعاطي معهم كحلفاء، وهم عملياً دول الاتحاد الأوروبي الذينَ باتوا اليومَ أشبهَ بمكسرِ عصا فلا هم قادرون على المبادرة ولا هم قادرون على لجمِ الحليف الأميركي، لذلك فإنهم قد ينتظرون اندلاعَ مواجهةٍ كهذه لإيمانهم بفرضيةِ أن الحرب ستُعيد لهم مكانةَ وصِفةَ الحليف لا التابع للأميركي.
بواقعيةٍ شديدة فإن إسقاط طائرة الاستطلاع الأميركية لا يعني بأن العقوبات الأميركية على إيران قد أُزيلت أو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعادَ الالتزام بالاتفاق النووي، لكنه ببساطةٍ أثبت عملياً أن إيران تمتلك ما لا يمكن أن يسمح للأميركيين بمغامرةٍ طويلةٍ إن أراد ترامب التصعيد، لكن وفي الوقت ذاته إن اعتراف الطرفين بوجود طائرتين إحداهما مأهولة كان الهدف منه إيقاع إيران في فخٍّ ما، وهي إن نجَت منهُ هذه المرة باختيارها الهدف الأدق، لكن هذا لا يعني أن نتجاهل السؤال المنطقي: ماذا لو أُعيدت الكَرَّة بوجود طائرتين مأهولتين تخترقان السيادة الإيرانية؟
كفكرة تبدو واردة، ربما إن الأميركيين قد لا يعيدونها من بابِ السعي للتدحرج نحوَ المواجهة الشاملة، لكن هناك من يعتقد أن مجردَ نشرَ صورٍ لتحليق كهذا في العمق الإيراني سيعني عملياً استعادةَ هيبة ما فقدها الأميركي تحديداً أمام حلفائهِ، لكن بطبيعة الحال لا يبدو أن الأميركي يقلق من صورتهِ أمام حلفائهِ لأنه يعي تماماً أن لا بديل لديهم.
الأهم من ذلك أن الحديث عن الهيبة الأميركية يقودنا للانقسام الأميركي ذاتَ نفسهِ على مستوى الطبقة السياسية، تحديداً عندما يتعلق الأمر بحالةِ «الخطر الجماعي» إن جاز التعبير الذي يهدّد الولايات المتحدة الأميركية، فأن تكذِّب زعيمة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي الرئيس ترامب بادعائِه التراجع عن توجيهِ ضربات لإيران في الدقائق العشر الأخيرة هذا يعني أن البحث عن الهيبة الأميركية كالباحث عن الماء في سراب الصحراء، فما الخيارات المتاحة؟
لا إجابة دقيقة على هذا السؤال، تحديداً أننا أمام لحظةٍ في سياقٍ عام تبدو عصية على التوقعات، والأرجح أن يبقى الستاتيكو الحالي لا زيادةً ولا نقصان مع دخول العامل الدبلوماسي جديّاً خلال الاجتماع المقرر يوم الغد على مستوى مسؤولي الأمن القومي في كل من الولايات المتحدة وروسيا والكيان الصهيوني، اجتماع مهما حاول البعض تجاهلَ أهميته في التخطيط لما هو قادم فإنه يبدو كمن يحاول إخفاءَ شمس الحقيقة بالغربال، وبمعنى آخر: ليس هناك قرار بالحرب ولن يكون ما دام الأميركي يرى نفسهُ قادراً أن يستثمر في الفوضى حتى آخر نفس، استثمار بالفوضى كانت ولا تزال ساحتهُ السورية هي الأساس، هنا حيث أَلهَمَ الصمود السوري الجميع بأن الولايات المتحدة ليست قدراً، هنا حيث لم يقم شجعان هذا العصر بتطبيق مقولة «الصمت أبلغ» بكل تجلياتها بما فيها الشهادة في سبيل الحق بصمت فحسب، لكنهم في الوقت ذاته بدوا كمن يوجهون رسائلَ لمن يهمه الأمر:
اصمتوا عما تشاؤون وأعطوه ما تريدونَ من توصيفاتٍ، لكن اعلموا أن الصمت يصبح بميزانِ العار عندما نظن أن صموداً ما لدولةٍ ما لم يكن مستوحى من الصمود السوري في هذه الحرب اللعينة، والقضية هنا بسيطة فمن يدفع الأثمان ليس كمن يؤرشفها، وهل هناك من ثمنٍ أكبرَ من أن تكون مركزاً لمحورٍ مقاومٍ «إعلامه المقاوم» يتباكى على «إرهابي»؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock