مقالات وآراء

بين واقعيةِ نصر اللـه ومبالغات الآخرين.. وفاء وحرب نفسية

في التعاطي معَ المواقف الصادرة عن شخصيةٍ لها وزنها الإقليمي والدولي في هذا العالم المتشابِك الصراعات كالأمين العام لحزب اللـه حسن نصر اللـه، يجب التمييز بين تلكَ المواقِف الصادرة عن الخطابات التي يُلقيها في مناسباتٍ متعددة و التي تتركز بجلّها على رفعِ الروح الحماسية لدى جمهور المقاومة ككل تحديداً من خلالِ كاريزما الخطاب التي يمتلكها، وبين اللقاءات التلفزيونية التي وإن كانت قليلة، لكنها أكثر شموليةً وشرحاً لكل ما يجري من حولنا، لتتحول إطلالتهُ من مجردِ عابرٍ للحدود إلى عابرٍ للقارات، ولعلَّ هذه المقاربة تجسَّدت كلياً في لقائه الأخير مساءَ يوم الجمعة الماضي على قناةِ المنار.
اللقاء والذي طالَ لثلاثِ ساعاتٍ بدا واضحاً أنه جاءَ متماشياً مع فرضيةِ وضع النقاط على الحروف في ظل التصعيد الإقليمي والدولي الذي لا يهدأ، لكن ما بدا أهم من ذلك هو استطراده في شرحِ الكثير من الحقائق، والتي يمكن تلخيص أهمها بنقاطٍ ثلاث أساسية:
أولاً: حزب اللـه والحرب على سورية
قد لا يشكِّل ما قالهُ نصر اللـه بما يتعلّق بالموضوع السوري الكثيرَ من كشفٍ للأسرار، لكن أهميتهُ تكمُن باستخلاصِ الحقائق غير المباشرة التي قد نراها بين الفاصلةِ والنقطة في عباراتهِ، فيما هناك من كان يتعمد عن قصدٍ أو غيرِ قصد التعامي عنها، فحسبَ نصر اللـه فإن «دماءَ من استشهدوا وفي مقدمتهم دماء قوات الجيش العربي السوري هي من منعت صفقة القرن»، مقاربةٌ تعني حُكماً أن هذه التضحيات منعت سورية من السقوط، فلا يستطيعَ أحد احتكارَ هكذا إنجازٍ أو إغفالَ التضحيات التي قدمها الجيش العربي السوري ليس لحمايةِ سورية فحسب، بل وللدفاعِ المستمر عن القضايا القومية العربية بمعزلٍ عن الطريقة التي يتاجر بها الآخرون بقضيةِ القدس مثلاً، وبمعزل عن مدى استمرارية القبول الشعبي لهكذا مصطلحاتٍ باتت في زمنِ الحرب والحصار أشبهَ بالكابوس.
كذلك الأمر كان في حديثهِ إعادة تصويبٍ لدورِ مقاتلي حزب اللـه في سورية الذين يخضعون حُكماً لقراراتِ القيادة العسكرية السورية، بل هو قالها صراحةً بأن «قائد المعركة في سورية هي القيادة السورية»، القضية هنا تكمن في قدرة الأمين العام على إعادةِ التصويب والرد على الكثير من الأكاذيب التي يتم تناقلها هنا وهناك وبعضها للأسف بمسمى «إعلام مقاوم» حول وهنِ الدولة السورية على مستوى إدارةِ المعارك بما فيها الرد على العدوان الإسرائيلي، أو قدرةِ القيادةِ السورية على ضبط الأمور والتأثير على الأرض إن كان لجهةِ الوجود الروسي على مستوى القوات أو الوجود الإيراني على مستوى المستشارين، فالحزب ورغمَ ما قدمهُ من دماءٍ في سورية لم يخرج أمينهُ العام ليستثمرَ بهذا الوجود لا بشكلٍ مباشر بادعاء منع سورية من السقوط، ولا غير مباشر عبر افتراضِ أن التواجد في سورية والعراق هو خطّ المواجهة الأول ضد المشاريع الأميركية في المنطقة!
لقد أرادَ الأمين العام لحزبِ اللـه وبشكلٍ غير مباشر رد الوفاء بالوفاء عندما أسقطَ بهذا الكلام الكثير من المغالطات، بمعزل إن كان عن قصدٍ أو غيرِ قصد، فإن أي مواطن سوري سمع اللقاء بعقلهِ لا بقلبه فهم أن الكثير من الأكاذيب التي تحاك هنا وهناك ولو بحسن نية لتعويمِ طرفٍ ما هي عملياً أكاذيب تنتهي عندما يكون المتحدِّث صادقاً مع نفسهِ قبلَ أن يكون صادقاً مع الآخرين.
ثانياً: حرب نفسية مع «إسرائيل»
لا يمكن الشك أبداً بقدرةِ حزب اللـه على خوضِ الحرب النفسية تجاهَ العدو بطريقةٍ يبدو عملياً متفوقاً فيها على دولٍ ومؤسسات لها باع طويل في ذلك، هذا الكلام كان يجسده بشكلٍ دائم أمينه العام حسن نصر اللـه في إطلالاته المتنوعة، لكن إطلالتهُ الأخيرة بدا فيها كمن يضع خططه على الطاولة لأنه يدرك أن عليهِ الاستثمار بالمصداقية التي يتمتع بها حتى عند عدوه، و لعل سر نجاحهِ في انتزاعِ هذه المصداقية أن الرجل الذي أذلَّ الكيان الصهيوني باعترافهم لا تزال أقدامهُ على الأرض، فهو بعيد كل البعد عن المبالغات التي لا تمت للحرب النفسية بصلة، فهو لم يقُل مثلاً إنه سيزيل «إسرائيل» عن الوجود في نصف ساعة، بل اكتفى بتمريرِ عدةِ رسائل تبدو كافية لقلب الكيان الصهيوني استخباراتياً رأساً على عقب، فاللعب على موضوع ضعف الجبهة الداخلية للعدو ليس بجديدٍ، لكن اللعب على الأهداف الداخلية المفترضة في عمقِ الأراضي المحتلة وإصراره على التمييز بين المدنيين والمستوطنين هو عملياً أكثر من مجرد رسالة للداخل الإسرائيلي، بل هي رسالة متعددة الاتجاهات وبمعنى آخر:
وضعَ الأمين العام لحزب اللـه الكرة في ملعب رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بجعلهِ يواجه الحقائق أمام «شعبه»، فالسلاح الذي تبحثونَ عنه قد وصل إلى المقاومة ولم تتمكنوا من تدميرهِ، ونتنياهو يكذب عليكم لأن ما يقصفهُ في سورية عبارة عن استعراضٍ، فلا القصف سيؤدي لرحيلِ إيران عن سورية طالما أن القيادة السورية لم تطلب ذلك، ولا القصف قادر على حسمِ معركةٍ على الأرض ذاق الصهاينة مسبقاً طعم مرارتها، وإن كانت القيادة السورية التي تمتلك وحدها قرار الرد من عدمهِ ترى الأولوية لمحاربةِ الإرهاب فهذا لا يعني أن السلاح الموجه على الجبهة الأساسية لا علاقةَ لهُ بهذه المعارك وفتح جبهة ما سيكون متلازماً بفتح عدةِ جبهات.
هنا تبدو الرسالة الأكثر أهمية قد وصلت، بل وربما هي الرسالة الأكثر دراسة الآن في كيان العدو.
ثالثاً: لماذا يجب علينا العمل لمنع الحرب في الخليج؟!
بدا واضحاً في كلام نصر اللـه أن الجميع يجب أن يعملَ لمنعِ وقوع الحرب في الخليج أو ما يمكننا تسميتهُ اصطلاحاً «الهجوم على إيران» بل إنهُ ساقَ الكثير من عبارات التخويف والتهويل من أثرِ تلك الحرب على الإقليم كاملاً وليس دولة بعينها. وجهة نظر يبدو فيها الكثير من سعةِ الأفق، القضية هنا ليست خوفاً من الحرب لكن من أثرِها المدمر على الجميع بما فيهم دول الخليج والمستفيد الوحيد هو الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً أن الرسالة كانت واضحة: «كل دولة ستشارك ولو بشكلٍ غير مباشر بالحرب على إيران ستكون هدفاً» لكن هذه المقاربة تفرض بواقعية مطلقة سؤالاً جوهرياً: لماذا علينا منعَ الحرب في الخليج والتسليم باستمرارِ المواجهة الأميركية الإيرانية في الساحات المفتوحة كسورية مثلاً، فيما نشاهِد كل هذا التحشيد تجاهَ الحرب مع «إسرائيل»، أليس هناك من سيقول ويردِّد بأن محور المقاومة يقدِّم وجهتي نظر متضادتين؟
في الحقيقة ظاهر الكلام يبدو كذلك، لكن التدقيق بما يعنيهِ الفرق بين الحربين سيقودنا لنتيجةٍ منطقية وبمعنى آخر: الحرب الإيرانية الأميركية إن حدثت فهي حرب إقليمية ستتحول حرباً دولية لن تخسَر فيها الولايات المتحدة دولاراً واحداً، أما الحرب مع «إسرائيل» فهي حربَ جبهاتٍ تقليدية تبقى حرباً محدودة الأَضرار على المستوى العالمي، فلا إيران ستشارك بحربٍ مباشرة ضد «إسرائيل» فيما لو تورطت في لبنان أو سورية، ولا الولايات المتحدة مقتنعة بأنها تفعل ما تفعله في سورية من دمارٍ وخراب لإضعاف إيران كما يكرِّر البعض، هذا اجتزاء وتسخيف للصراع لأن الولايات المتحدة تريد خدمة «إسرائيل» عبر إسقاط سورية الذي يعني تلقائياً خنق المقاومة وابتعاد إيران عن ساحات الصراع، وبتبسيطٍ أكثر يرى الأميركي نفسه اليوم ممسكاً بزمام خنق «ألف ياء» المقاومة، أي سورية فلماذا سيتورط مع الهوامش؟!
في الخلاصة: قدّم الأمين العام لحزبِ اللـه في لقائهِ وجبةً إستراتيجية دسمة لكل من يريد أن يفهم أن ما يجري ليس صراعَ إرادات بل هو صراع وجود، لندقق مثلاً بما قاله بأنه لا يوافق على الفكرة القائلة بأن «إسرائيل» تتحكم بقرارات الولايات المتحدة، هذا الطرح يؤكد فكرة أن «إسرائيل» بالنهاية وديعة أميركية تراها الولايات المتحدة كمجردِ قاعدةٍ متقدمة لها في المنطقة مثلها مثلَ أي كيانٍ يضع بيضهُ كاملاً في سلة الأميركي، بل وزادَ من الشعرِ أبياتاً لكل الواثقين بقدرةِ القيادة السورية على اتخاذِ القرار المناسب في الوقت المناسب، وأن دماءَ المقاومين واحدة لأن لا فرق بين من استشهدَ دفاعاً عن سورية أو لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock