مقالات وآراء

ما أشبه اليوم بالأمس

كانت المملكة المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية مترددة وحائرة إزاء فكرة التخلي عن إمبراطوريتها، فعمدت إلى إنشاء مصارف مركزية مستقلة وشركات خاصة، الهدف منها مواصلة نهب مستعمراتها السابقة، ووضع يدها على نصف ثرواتها الوطنية بُعيد حصول تلك المستعمرات على استقلالها. الأمر الذي لم يرق لرئيس وزراء الشاه، محمد مصدق بعد أن تبين له أن لندن تصادر عملياً نفط بلاده، وتنهب ما يعادل خمسين بالمئة من عائدات النفط الإيراني من خلال شركة النفط الأنغلو-إيرانية (AIOC). ولهذه الأسباب مجتمعة قام بتأميم تلك الشركة التي تعود ملكيتها لوزارة البحرية البريطانية، ما أثار ذعر لندن، لخشيتها أن يصبح ما أقدمت عليه إيران في ذلك الحين مثالاً يُحتذى في العالم الثالث بأسره.
إيران، في نظر الغرب خصم خطير للغاية.
وللدفاع عن إمبراطوريته الآفلة، تمكن رئيس وزراء التاج البريطاني، وينستون تشرشل من إقناع شريكه الأميركي، الرئيس دوايت أيزنهاور، بالإطاحة بمصدق عبر عملية مشتركة، أطلق عليها اسم «أجاكس»، نفذتها المخابرات البريطانية أم آي6 ووكالة الاستخبارات المركزية.
كانت «أجاكس» تحت إشراف كل من كيرميت روزفلت وهيربرت إن. شوارزكوف.
الأول، هو حفيد الرئيس ثيودور روزفلت الذي استعمر أميركا اللاتينية، والثاني هو والد الجنرال نورمان شوارزكوف الذي قاد حرب الخليج ضد الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
كانت عملية أجاكس المشتركة نجاحاً باهراً للأنغلو-أميركان، قدمت لهم نموذجاً للثورات الزائفة التي تهدف إلى تغيير الأنظمة المتمردة، لكن الأهم من ذلك أنها أخرت تحرر الشعوب المستعمرة خمسة وثلاثين عاماً.
وهكذا، عندما أطاحت الولايات المتحدة بالشاه رضا بهلوي، الذي كان يستعد لاتخاذ قرار برفع عالمي في أسعار النفط عبر منظمة أوبك، اعتقدت أنها قادرة على إثبات مهاراتها من جديد في تنظيم خليفة له بالتعاون مع فرنسا، من خلال ترتيب عودة الإمام روح اللـه الخميني إلى البلاد. لكن رعاة البقر لم يكونوا بمستوى حصافة وحذاقة أسيادهم الإنكليز في ذلك الحين، فكان السقوط مدوياً، وأصبحت إيران مرة أخرى بطلة الكفاح ضد الإمبريالية، كما كانت قبل النظام الإسلامي.
الصراع الذي نشب في الوقت الحالي، هو الصراع القديم نفسه، فكما انهار إنتاج النفط الإيراني في عهد مصدق تحت وابل التهديدات الغربية، واحتجزت البحرية الملكية ناقلة نفط إيرانية (روز ماري في تموز 1952، احتجزت غريس1 في جبل طارق في الشهر نفسه من العام الحالي 2019)، زعم البريطانيون، كما هي عادتهم دائماً، أن لهم الحق في ذلك، وفي الواقع لم يعد لهم الحق إلا في الغطرسة.
اتهموا إيران في عهد محمد مصدق بتصدير نفطها المسروق (لأنهم لم يعترفوا بعملية التأميم)، واليوم يتهمونها بخرق العقوبات الأوروبية (ولكن هذه العقوبات تنتهك القانون الدولي تحديداً).
والآن، إذا مالت كفة الصراع لمصلحة البريطانيين، فسوف يتأجل تحرر الشعوب المستعمرة لعدة عقود من الزمن، أما إذا انتهى برجحان كفة الإيرانيين، فسوف يفتح الطريق أمام عالم متغير.
وهنا، من غير المستبعد ظهور طريق وسطى في الأفق.
لو كانت لندن وواشنطن حليفتين في عام 1952، لدخلتا في تنافس متصاعد، واستولت الولايات المتحدة في عام 1957 على جزء من الإمبراطورية البريطانية خلال أزمة السويس.
كانت واشنطن تشارك في ذلك الوقت في مفاوضات بريطانيا مع الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، ورأت بأم العين التقارب الذي حصل بين الفرنسيين والإنجليز والإسرائيليين، لكنها لم تتحرك إلا عندما أطلق الثلاثي حملته العدوانية، وارتكب حماقة لا يمكن إصلاحها.
وما أشبه اليوم بالأمس، فالولايات المتحدة يمكنها، بعد أن أخذت مسافة من بريطانيا، أن تقتنص فرصة أي خطأ قد ترتكبه لندن «لإنقاذ السلام»، بطردها من الخليج، فالمستشارون البريطانيون ما زالوا موجودين في السعودية، والبحرين، والإمارات، وعمان، وقطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock