مقالات وآراء

لماذا التعليم ثمّ التعليم؟

رغم أن مراكز الأبحاث الأميركية قد نشرت منذ عام 1996 إستراتيجية «الاختراق النظيف»، فإن الدول المستهدفة بهذه الإستراتيجية إمّا لم تلحظها وإمّا لم تأخذها على محمل الجدّ ولم تغيّر من أساليب عملها ومواجهتها. مع أنّنا بعد عقدين ونيّف من صدور هذه الإستراتيجية نلحظ تطبيقها في بلدان عديدة وفي قارات مختلفة ونلحظ النتائج التي بشّرت بها هذه الإستراتيجية منذ أن تبلورت وتحولت إلى خطة عمل وانتقلت من كونها نتاج بحث مفكرين أشرار إلى مكاتب أصحاب القرار في وزارات الخارجية والدفاع لدول تقوم سياساتها الاستعمارية على البغي والعدوان ونهب ثروات الشعوب وتهديد أمنها وسيادتها واستقرارها.
وتنصّ هذه الإستراتيجية في جوهرها على أن الدول الاستعمارية وهي الدول الغربية وكيان الاحتلال الإسرائيلي عليهم أن يغيّروا جذرياً أسلوب مقاربتهم للأحداث ومواجهتهم لها. إذ ليس على هذه الدول بعد اليوم استخدام الجيوش لشنّ الحرب بهدف تحقيق أهدافهم. بل عليهم أن يبحثوا داخل المجتمعات المستهدَفة عن عناصر تؤمن بالغرب أصلاً وتؤيد أهدافه لأسبابها العديدة وأن يعملوا على تغذية هذه العناصر بما تحتاجه كي تخوض المعارك التي يرغبون في خوضها نيابة عنهم ومن داخل المجتمعات المستهدفة ومن دون أن يضطروا إلى استخدام جندي واحد أو إراقة دماء من لدنهم. أي إن الدولة العميقة في الدول الاستعمارية وهي مجموعة أجهزة المخابرات تسعى لتجنيد عناصر لها في أي بلد تريد إخضاعه لمصلحتها فتضع الأساليب والمال وتصنّع الإعلام الذي يمكّنها من تحقيق أهدافها وبهذا تنتقل الحدود التقليدية إلى داخل البلدان والمجتمعات المستهدَفة وتختلف أساليب السيطرة عليها بحيث تصبح التكلفة أقلّ بكثير من الأساليب التقليدية التي كانت معتمدة وتكون النتائج أفضل. وقد بدأ التطبيق الفعلي لهذه الإستراتيجية مع ظهور الثورات الملونة ولعلّ ما سموه الربيع العربيّ يعتبر أنموذجاً واضحاً لتطبيق هذه الإستراتيجية على البلدان العربيّة. واليوم نتابع تطبيق هذه الإستراتيجية في فرنسا كما تابعناه في البرازيل ونتابعه في فنزويلا وفي بلدان أخرى من العالم أهمها أوكرانيا.
وقد يكون العمل جار على بلدان أخرى كثيرة وفي مختلف القارات قبل أن تطفو إلى السطح الحركات التي يحضّرون لها وفق منهجية العمل هذه. ورغم التحقّق من أسلوب العمل الجديد هذا، ألا وهو الاختراق من الداخل وتسخير البعض من أبناء البلاد لتنفيذ الأهداف التي كان المستعمر في السابق يحشد لها الجيوش والإمكانات، فإن إجراءات مواجهة هذا النوع من الاختراق لم ترتقِ في معظم البلدان المستهدفة إلى مستوى المواجهة المطلوب. إذ مازالت النظرة إلى أي زعزعة داخلية لا تحشد الإمكانات اللازمة لها ولا تضع الإستراتيجيات القادرة على مواجهة هذه الاختراقات على المديين المتوسط والبعيد. ولعلّ الإعلام يمهد ويخوض معارك مختلفة قبل المباشرة بتطبيق الأجندة السياسية أو العسكرية للدول الاستعمارية، وإذا توقفنا مع مثال البرازيل نلاحظ أن الحرب الإعلاميّة التي شنّها الغرب على مدى سنوات على الرئيس سيلفادي لولا وعلى اليسار البرازيلي بشكل عام كانت مقدّمة ناجحة لتحويل توجهات الحكم في البرازيل إلى حكم يميني يمكن الانطلاق منه لتقويض أشكال الحكم اليساري في فنزويلا وبوليفيا وغيرها من دول أميركا اللاتينية بما يخدم مشروع الولايات المتحدة وعودة هذه البلدان إلى بيت الطاعة الأميركي. وإذا ما درسنا أي حالة من حالات ما أسموه «الثورات» في العالم العربيّ نلاحظ أن القائمين على كلّ هذه التحركات تربطهم علاقات وثيقة بالغرب وبالأعداء الإقليميين والتاريخيين لهذه الأمة، وقد تمّ تمويلهم وتسليحهم للقيام بالمهمة التي كانت توكل في السابق إلى الجيوش الجرّارة التي تكلّف دولها أضعاف ما يكلفها حفنة من الخائنين لترابهم وبلدانهم وقضاياهم. ولكنّ توصيف الحال اليوم لم يعد كافياً ولابدّ من وضع إستراتيجية مقابلة تواجه إستراتيجية الاختراق النظيف وتحبطها وتعمل على إفشالها في أي ساحة أو بلد أو إقليم. والمواجهة أمر ليس بالسهل ولا السريع لأنّها تحتاج أيضاً إلى عصارة فكر نخبة من المفكرين والسياسيين المنتمين والمتجذرين والقادرين على فهم عميق لما يقوم به الأعداء ووضع الأساليب القادرة على إفشاله وإنقاذ البلاد من براثنه.
لعلّ الخطوة الأولى في إستراتيجية المواجهة هذه يجب أن تبدأ من تحصين الداخل وما الذي يمكن أن يحصّن الداخل سوى التعليم والإعلام. لاشكّ أن الاهتمام الكبير يجب أن يتم توجيهه إلى تربية الناشئة وإلى المناهج التي تتضمن آخر ما توصل إليه الخصوم والأعداء من نظريات وأساليب عمل ووضع المقابل لها في مناهج التربية كي ينشأ أبناء البلاد على أفكار واضحة ومبادئ لا تشوبها شائبة وكي يصبح من المستحيل، أو الصعب جداً، اختراقهم. وعملية التحصين هذه يجب أن تكون دائمة ومستمرة تجذّر الانتماء والهوية وتعزّز عوامل القوة الداخلية وتصهر الأفكار والآراء في منظور وطني واحد لا تنتقص منه الاختلافات ولا تؤثر سلباً في مساره وترجمته إلى برامج عمل وطنيّة واضحة في مختلف المجالات. التعليم والإعلام سلاحان في غاية الأهمية في مواجهة الاختراق النظيف الذي يفتّ في عضدَ البلدان من خلال هذه المفاصل الرخوة إذ إن المعارك الحقيقية اليوم وفي المستقبل انتقلت إلى هذين المجالين الحيويين، ولذلك فإن الغرب يخشى الصين وروسيا ويركّز على مواجهة إيران لأن الإنتاج العلمي والتقني ونظم التعليم والإعلام في هذه البلدان تتسمّ بأساليب مواجهة مدروسة ومعمقة وهادفة ضد هذا الاختراق. أمّا في إقليمنا العربيّ فلم يتمّ بعد وضع إستراتيجيات واضحة لإجهاض تلك التي تستهدفنا وتستهدف وحدتنا الوطنية وهويتنا وانتماءنا وعناصر قوتنا. وإذا كان لابدّ من البدء فلاشكّ أن التعليم هو صانع الأجيال وهو الذي يعتمد عليه في صياغة عقول الناشئة وتربيتها تربيّة وطنيّة صلبة يصعب على الخصوم اختراقها. لقد أمضت الصين أربعين عاماً تفكّر وتخطّط وتعمل كي تتحول إلى أمّة مهمة يخشاها الأعداء ويسعى لكسب ودّها الأصدقاء، وقد بدأت من البداية في التعليم والتحصين الداخلي لأبنائها كما عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إعادة هيبة روسيا وأشرف شخصياً على تغيير المناهج التربوية بما يتلاءم والأهداف الوطنيّة التي يسعى إلى تحقيقها في البلاد، فهل يتعلم العرب من أساليب ونجاحات هذه الدول من دون الحاجة إلى إعادة اختراع الدولاب؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock