مقالات وآراء

الجموح التركي وشراكة «أستانا»

كلما سقطت ورقة مناورة من يد النظام التركي بحث في أوراق دفاتره القديمة عن مخرج يبرر احتلاله لأراض سورية، أو لجأ إلى الاستنجاد بشريكيه في منظومة «أستانا» الروسي والإيراني.
كان من المفروض أن يكون هذا النظام قد أنجز مضمون اتفاق «سوتشي» حول إدلب ومحيطها، بحيث يحقق الفصل المزعوم بين ما يسمى «المعارضة الوطنية المسلحة» وبين المجموعات الإرهابية أياً كانت تسمياتها والعناوين التي تتخفى في ظلها، وذلك وفقاً لتعهداته التي التزم بها والتي كان شريكاه يأملان من خلالها أن يوفر عليهما ومعهما الجيش العربي السوري والقوى المُقَاوِمة الحليفة الذهاب إلى معركة عسكرية حاسمة كانت قد اكتملت تحضيراتها اللوجستية والقتالية بكاملها. كذلك كانا يعتقدان أن وفاء النظام التركي بتلك التعهدات يمكن أن يشكل توطئة لتطبيع هادئ وتدريجي بينه وبين الدولة السورية يُجَنِّب الإقليم كله التداعيات السياسية والاجتماعية الخطيرة جراء استمرار الهجمة الكونية على سورية.
غير أن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان اختار المراوغة واللعب على الوقت محاولاً الاستفادة من الانشغالات التي طرأت على الشريك الإيراني بسبب بدء تنفيذ العقوبات الاقتصادية والمالية الأحادية التي فرضتها الإدارة الأميركية الحالية على طهران، ومراهناً كذلك على اتساع مروحة التعقيدات في العلاقات الأميركية الروسية بدءاً من الملف السوري، ومروراً بموضوع الدرع الصاروخية وصولاً إلى التنازع على إعادة صياغة توازنات النظام العالمي الجديد، ما منحه إذناً روسياً بالتمديد المتكرر لفترة السماح التي تؤخر تنفيذ تعهداته.
إذاً، عدم التزام أردوغان بتنفيذ اتفاق «سوتشي» لم يكن نتيجة لإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار سحب قوات بلاده المحتلة للأراضي السورية بل سبقه بشهورٍ عدة، ولم يكن بسبب عدم قدرته على إعادة تركيب الخريطة العسكرية في المنطقة المستهدفة من هذا الاتفاق. إنما هو نهجٌ اعتمده أردوغان منذ بداية انضمامه إلى مسار «أستانا» وذلك لتحقيق أمرين أساسيين، الأول: إضفاء شرعية على تدخله العسكري والأمني والسياسي والديمغرافي في سورية، والثاني: حفظ مقعد متقدم على طاولة الحل السياسي بما يوفر له مكاسب إستراتيجية عند صياغة خريطة موازين القوى الجديدة المفترضة.
لكن باعتقاد أردوغان أن القرار الأميركي القديم-الجديد وفر له مساحة زمنية إضافية للمناورة وإعادة خلط الأوراق بين منطقتي شرق الفرات وشمال سورية لملء الفراغ الذي سيتركه قرار الانسحاب المذكور، فسارع إلى تعقيد الواقع الميداني في الشمال عبر فتح محافظة إدلب بأكملها أمام إرهابيي ما يسمى«هيئة تحرير الشام» للسيطرة عليها، وبالتالي إنهاء ما تبقى من ما يسمى تنظيمات «المعارضة الوطنية المسلحة» المفترضة، وهي خطوة أسقطت عملياً أبرز بنود اتفاق «سوتشي» المتعلقة بالعمل على محاصرة الإرهابيين وعزلهم تمهيداً للقضاء عليهم، إضافة إلى أنه سعى في موازاة ذلك إلى تهيئة الأجواء السياسية للانقضاض على مناطق شرق الفرات.
المفارقة الغريبة أن رئيس النظام التركي يطمع من دون خجل أو رادع بأخذ موافقة شريكيه في «أستانا» وفي «سوتشي» الروسي والإيراني على الانتقال إلى شرق الفرات أي منحه المزيد من التفويض لاحتلال أراض سورية جديدة وهو بَعدُ لم يظهر أي التزام أو احترام لتعهداته في ما يعني محافظة إدلب! بل إنه ذهب بعيداً في رهانه على المسايرة وسياسية الاحتواء التي يعتمدها معه الشريكان المذكوران، وذلك من خلال استحضار اتفاق «أضنة» ووضعه على طاولة الحوار مع هذين الشريكين.
ولكن هل يصح إعادة العمل باتفاق «أضنة» في وقت نسف كل مندرجاته، وخصوصاً منها تلك المتعلقة بحرص البلدين المعنيين تركيا وسورية على عدم السماح باستعمال أي من أراضيهما كمقر أو ممر للمجموعات الإرهابية للنيل من البلد الآخر، ومنذ بدء الأزمة في سورية شكلت تركيا المقر والممر الأول والأساسي والأهم لتلك المجموعات. وهل تصح العودة إلى بنود هذا الاتفاق حول الحدود على حين اخترق النظام التركي تلك الحدود واحتل جزءاً من الأراضي السورية ويسعى يومياً لتوسعة مساحة هذا الاحتلال!
في ظل جموح النظام التركي واستعجاله لفرض وقائع ميدانية سيكون لتداعياتها مفاعيل سياسية، تبدو الحاجة إلى إعادة تأسيس تفاهمات جديدة بينه وبين شريكيه الروسي والإيراني حول المرحلة المقبلة ملحة بل مفصلية، خصوصاً أن إمكانية الولوج إلى حل سياسي من بوابة تشكيل «اللجنة الدستورية» المفترضة سيكون أمراً مستحيلاً إن لم يتم تحرير الأراضي السورية بالكامل من الإرهابيين والمحتلين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock