مقالات وآراء

الحاجة إلى حامل سياسي لقضية استدامة التنمية

بقلم: د. أسامة دنورة

احتلت مسألة التنمية المستدامة ولا تزال حيزاً كبيراً من حجم الخطط والندوات والتصريحات ضمن الأطر الحكومية والحزبية على حد سواء، بما في ذلك البيان الحكومي الأخير.

ولكن على الرغم من كل ذلك فواقع الحال يُظهر ان هذا الأمر لم يتحول مطلقاً إلى إنجازٍ حقيقي ملموس قادر على الاستجابة لتحدي التخطيط الإستراتيجي التنموي المبني على معايير الاستدامة، ولو حتى ضمن حدود دنيا..

على سبيل المثال فشلت الحكومات المتتالية، قبل الحرب وأثناءها، في إنجاز إستراتيجية وطنية للتحول نحو الطاقات المتجددة، واستمر هذا الفشل حتى عام ٢٠١٩، وعندما ولدت هذه الإستراتيجية التي تم إقرارها من الحكومة بناءً على خطة وزارة الكهرباء، ظهر أنها تفتقر جداً إلى الطموح، فهي تستهدف الوصول إلى نسبة ٥٪؜ من الاعتماد على الطاقات المتجددة من مجمل الإنتاج الطاقي في عام ٢٠٣٠، على حين أن النسبة المستهدفة لعام ٢٠٣٠ في الجزائر مثلاً هي ٤٠٪؜، وطبعاً هنا لا نقارن ظروفنا الصعبة بدول لم تتعرض لما تعرضنا له من حرب إجرامية دولية، ولكن رغم ذلك تبقى نسبة ٥٪؜ متواضعة جداً، ناهيك عن التنفيذ الفعلي لهذه الخطة، وهو أمر لا يشعر العديد من المواطنين حياله بالتفاؤل اليوم.

تتمتع سورية بمساحات كبيرة من الأراضي غير المستثمرة اقتصادياً، والتي تتعرض لمعدل سطوع شمسي هائل يغني لربما عن عشرات آبار الغاز والنفط من العيار المتوافر على الأرض السورية.

هذه الثروة الشمسية قادرة، وفق ما يراه العديد من المتابعين، على أن تكون رافداً مهماً جداً لعملية التنمية، فهي الذهب “الذهبي” الذي لا ينضب ولا يلوِّث بخلاف “الذهب الأسود”، ما يعني أن تحويله إلى معطى مستدام للتنمية هو أمر واقعي، ويكفي أن نعلم أن مجموعة “ديزرتيك” desertec الأوروبية خططت عام ٢٠٠٩ لإنشاء محطات إنتاج كهرباء شمسية في دول شمال إفريقيا بتكلفة استثمارية قدرت آنذاك ب٤٠٠ مليار يورو، بهدف نقل الطاقة الكهربائية منها إلى أوروبا من خلال شبكة عظمى للكابل عالي الفولت.. أوروبا التي تعرض عليها الطاقة النفطية والغازية من كل حدب وصوب، ولديها مصادرها الذاتية للوقود الأحفوري في حقول النرويج وبحر الشمال.

أن تكون لدينا مصادر هائلة للطاقة المتجددة، ويقتصر تخطيطنا أو ينصب أو يركز على الوقود الأحفوري، لهو سوء التصرف بعينه، ولا سيما أن تكنولوجيا استثمار الطاقة الشمسية تصبح أقل تكلفة يوماً بعد يوم، ما يعني أن جدواها الاقتصادية تتعزز باستمرار.

أما الموضوع الذي لا يقل أهمية وإستراتيجية، وفشلت فيه الحكومات المتعاقبة، وفي صدارتها وزارتا الإسكان والإدارة المحلية، فهو موضوع “العمارة الخضراء”، ومعناها باختصار وضع “كود” أو معيار إلزامي لجميع الأبنية يتضمن: العزل الحراري، الاعتماد بنسبة مدروسة على الطاقات المتجددة، نظام صحي للتخلص من النفايات، سلالم النجاة وتجهيزات الطوارئ، مرآب إلزامي يكفي سيارات البناء بحيث يتم التخلص من ظاهرة ركن السيارات في الشارع، تلك الظاهرة التي تقلص كثيراً من استيعاب الشوارع لانسياب حركة المرور، حيث إنه من نافلة القول أن ضيق الطرقات والازدحام هو واحدة من المشاكل التي تعانيها العديد من المدن السورية، بما فيها العاصمة دمشق.

كما يمكن أيضاً (بل يجب) أن يضاف إلى معيار الاستدامة العمرانية تجهيز الأبنية بالبنى المقاومة للزلازل.

إن تخصيص مساحات مدروسة ونسبة محددة للمساحات الخضراء ضمن تخطيط المدن والأحياء والضواحي يوسع مسؤولية التطوير لتشمل الجهات المسؤولة عن التخطيط الإقليمي، كذلك يجب أن يتضمن التخطيط المديني الأخضر أو المستدام الاستعداد المسبق (عند وضع المخططات المدينية) لِلَحظ أنفاق الخدمة، والحيز المكاني الممكن تكريسه للتنفيذ اللاحق أو المباشر لخطوط النقل الجماعي فوق وتحت- الأرضية.

إن الحجج المتوقعة في الرد على هذه المطالبات معروفة، وهي تتعلق بزيادة التكلفة الإنشائية العمرانية والمدينية ونقاش الأولويات في الأنفاق، ولكن المؤكد والمحسوب بدقة لدى جميع الخبراء المعنيين بالشأن التنموي أن الكلف الإضافية سرعان ما تُسترد من الوفورات المتحققة في استهلاك الوقود وتجنب الأضرار المتوقعة نتيجة الحوادث والكوارث الطبيعية وسواها، وعملياً هذا الاسترداد المتأخر قليلاً للكُلف هو جوهر فكرة التنمية المستدامة بالأساس.

إن تنظيم النمو العمراني والمديني بمعايير خضراء ومستدامة ذو تأثير هائل على النظام العام والنشاط الاقتصادي وسايكولوجية السكان واحترامهم للمعايير القانونية والتنظيمية في المدن والتجمعات السكنية، وسورية قد تأخرت كثيراً في تنظيم هذا المنحى الذي يبدو تنظيمه ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالبلاد قادمة (بل بدأت فعلياً) بإعادة الإعمار، وهو ما يجب أن يكون على أسس حضارية جديدة تتلافى العيوب والفوضى السابقة، فكثير من المناطق المدمرة هي من مناطق المخالفات الجماعية وضواحي السكن العشوائي، وتركها فريسة لإعادة إعمارها بنفس الأسلوب يعني بالمحصلة أننا شعب يرفض أن يتطور، وحكومات تفتقر إلى الالتزام الوطني والأخلاقي بحق الحاضر والمستقبل، وأننا سنُلدغ من الجحور ذاتها في العديد من المرات..

سيبقى الأداء الحكومي غير مقنع ولا محترم في نظر المواطن إذا رأى فيما يحيط به من حوله الفوضى والنقص في التقدير والاحترام لاحتياجاته الأساسية، ونظام حياته اليومي في مسكنه وشوارعه ومواصلاته، فتلك العوامل هي مرآة احترام الحكومة للمواطن في بديهيات بيئته اليومية، وهذه المرآة هي نفسها التي ستعكس صورة رضا وولاء وانتماء المواطن إلى مجتمعه ودولته ووطنه.

إن إحجام الحكومات السابقة على مدى عدة عقود عن انتهاج التنمية المستدامة كأولوية أو إستراتيجية ثابتة لا يدعو للتفاؤل بأن هذا النهج سيتغير بصورة جذرية في ظل هذه الحكومة، وهذا يدفع إلى الاستنتاج بأن العلة هنا بنيوية، فعلى الرغم من أن العديد من الحكومات والأطر الحكومية والأحزاب تضع في برامجها وخططها التنمية المستدامة كعنوان، إلا أنه لا يوجد اي منها مهتم بهذا الشأن من باب الاختصاص، وهذا يدفعني إلى الاستنتاج أن غياب حامل سياسي لقضية التنمية المستدامة سيُبقي على هذه القضية كأحد المُحسِّنات أو “الديكورات” أو المنكهات التي تزين الخطط والبيانات لتبدو أكثر احترافاً وشمولاً، دون أن تكون تلك القضية أولويةً لأحد.

ومن هنا، ومن منطلق الفعالية المرتبطة بالتخصص، تبدو الحياة السياسية السورية بحاجة ماسة اليوم لإنشاء حزب سياسي يهدف إلى رعاية قضية البيئة والتنمية المستدامة كأولوية، ويتولى متابعة اداء الحكومة واستجوابها ومحاسبتها في كل ما يتعلق باحترامها لمعايير التنمية المستدامة في إستراتيجياتها وأدائها اليومي على حد سواء..

إن المثل الإنكليزي الشهير، والذي يجد تطبيقاً له في علم الإدارة وفي الحياة الاجتماعية على حد سواء، يقول Everyone’s job is no one’s job ، وإذا لم تكن قضية البيئة والتنمية المستدامة تتمتع بحامل سياسي مختص بها ومتفرغ لها، فهي ستبقى على الأغلب كيتيمٍ من الأيتام على مأدبة اللئام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock