السيادة النقدية.. استقلال تشاغب عليه السوق السوداء

في ظلّ تحدّيات اقتصادية طاحنة يتزامن مع رفع العقوبات الدولية، تطفو على السطح إشكالية محورية: هل يمتلك مصرف سوريا المركزي الاستقلالية الكافية لقيادة السياسة النقدية ولجم التضخم؟ فبينما تُصاغ القرارات النقدية نظرياً لتحقيق الاستقرار، يبدو الواقع مختلفاً تماماً؛ حيث تهيمن السوق السوداء على التسعير، وتتآكل القوة الشرائية رغم استقرار سعر الصرف الظاهري.
أكد الخبير المالي والمصرفي الدكتور عبد الله قزّاز أن استقلالية السياسة النقدية يمثّل هدفاً أساسياً للبنوك المركزية، وقد كانت هذه الاستقلالية في سوريا في ظل النظام البائد وهماً بسبب السيطرة الحكومية والأمنية على صناعة القرار النقدي والاقتصادي والضغوط الاقتصادية الهائلة والعقوبات المتنوعة والشاملة. وتُصاغ السياسة النقدية اليوم عبر أدوات مثل تعديل أسعار الفائدة وإدارة عرض النقود، بينما يفتقر مصرف سوريا المركزي إلى استقلالية حقيقية للجم التضخم، مع هيمنة السوق السوداء على التسعير.
هل الاستقلالية حقيقة؟
قال أستاذ الاقتصاد: تفترض النظرية الاقتصادية أنّ استقلالية البنك المركزي تحمي من التدخل السياسي، لكن في سوريا تحولت إلى فجوة شرعية حيث تُتخذ قرارات من دون اعتبار الآثار الاجتماعية، مما يضعف الثقة في الليرة. ولكنّ عودة سوريا إلى “سويفت” ورفع عقوبات قيصر سيعززان السيادة النقدية نسبياً، لكنّ الاستقلال الكامل يتطلب احتياطيات قوية وإصلاحات هيكلية ضمن النظام الداخلي لمصرف سوريا المركزي، وضمن الآليات والأساليب والأسس التي يستند إليها في صناعة قرارته.
من يملك لجم التضخم ويقود التسعير؟
أوضح قزّاز أن البنوك المركزية المتقدمة تملك هذه القدرة عبر أدواتها، لكن في سوريا تسيطر الحكومة والمضاربون على التسعير، مع تآكل القوة الشرائية رغم استقرار سعر الصرف الظاهري. ويُلجَم التضخم جزئياً بقرارات مصرف سوريا المركزي، لكن السوق السوداء والقطاعات غير المنتجة تقود التسعير فعلياً، مما يفرض تكاليف اجتماعية باهظة.
ولفت إلى أنه تحدّ قيود الاحتياطي الأجنبي بشكل كبير من قدرة مصرف سوريا المركزي على تنفيذ السياسة النقدية الفعالة، مما يعوق التدخل في سوق الصرف واستقرار الليرة. وإنّ تجميد هذه الاحتياطيات بسبب عقوبات مثل قانون قيصر منذ 2019 شلّ حركة الحسابات الخارجية، مما أضعف السيولة والقدرة على بناء الاحتياطيات.
تأثير على السياسة النقدية
قزّاز أشار إلى أنه يمنع انخفاض مستوى الاحتياطيات الأجنبية من تدخل المصرف المركزي في دعم سعر الصرف، مما يعرّض الليرة لتقلبات حادة ويُعزز دور السوق السوداء في التسعير. كما يحدّ من تعديل أسعار الفائدة، وتوفير السيولة للاقتصاد، خاصة مع انخفاض الاحتياطيات.
كيف تُصنع السياسة النقدية؟
أكد قزّاز أن السياسة النقدية تعتمد على قنوات مثل سعر الفائدة للحدّ من الطلب الزائد، وتعديل عرض النقود لاستقرار الأسعار والناتج، لكن الاختلال الهيكلي يحدّ من فعاليتها. وقد ركزّت السياسة النقدية لمصرف سورية المركزي طوال سنوات الثورة السوريّة على تأمين متطلبات تمويل مستوردات القطاع الخاص في أهمّ القطاعات وخاصةً الإنتاجي منها وتلبية حاجة هذا القطاع من القطع الأجنبي لاستيراد مستلزمات الإنتاج وكان ذلك بسبب ضآلة القطع الأجنبي، وبالتالي كانت الأولوية لدعم العملية الإنتاجية وليس الاستثمارية.
ويرى الخبير الاقتصادي أنه يمكن لسوريا حالياً الاستفادة من التجربة الصينية عن طريق تنويع سياساتها الاستثمارية من خلال التوجه إلى الاستثمار في المحافظ المالية الطويلة الأجل وذات العائد المضمون وفق المخاطر المحتملة، على أساس التوظيفات طويلة الأجل لتغطية كل التقلبات القصيرة الأجل مع التنوع في الاستثمارات المختلفة للمحفظة المالية.
مضيفاً: كما يمكن الاستفادة من انخفاض قيمة الليرة السورية الذي ساهم في انخفاض قيمة الصادرات السورية مقارنة مع قيم الصادرات للدول المجاورة. كذلك محاولة استهداف معدلات ادخار مرتفعة وتثبيط الاستهلاك المحلي وكذلك الطلب على الواردات. كما يمكن الاستفادة من التجربة الهندية عن طريق الاحتفاظ بالقدر الأكبر من الاحتياطيات في صورة أصول سائلة بالعملة الأجنبية، وتعزيز الثقة في السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف، وتعزيز الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، من خلال إصدار سندات حكومية أو الاقتراض المباشر، والحفاظ على مستوى ملائم من العملات الأجنبية لتغطية الواردات.
التحديات المستمرة
قال قزّاز: رغم التعافي المتدرج بنمو 1 بالمئة في 2025، يظل الاقتصاد غير الرسمي والقطاع غير المصرفي يقوّضان السيطرة، مما يجعل الاحتياطيات غير كافية لمواجهة الصدمات الخارجية.
وإنّ الاحتياطيات الأجنبية لمصرف سوريا المركزي تؤدي إلى تفاقم التضخم من خلال إضعاف قدرة دعم الليرة، مما يزيد الضغط على سعر الصرف ويرفع تكاليف الواردات. حيث قدّرت الاحتياطيات الأجنبية لسوريا عام 2010 بـ (17-18 مليار دولار) التي كانت تعتبر جدار حماية ضد التضخم عبر تغطية الاستيراد واستقرار الأسعار، لكن انخفاضها إلى 250 مليون دولار في السنوات الأخيرة للنظام البائد أدى إلى انهيار الليرة وتضخم يفوق 200 بالمئة سنوياً.
آفاق التعافي
وأكد قزّاز أنّ رفع عقوبات قيصر يفتح آفاقاً واعدة لتعافي السياسة النقدية السورية من خلال بناء الاحتياطيات الأجنبية وزيادة التصدير، مما يعزّز استقلالية مصرف سوريا المركزي، ويتيح ذلك تدفق الاستثمارات وإعادة الربط بشبكة “سويفت”، لكن النجاح يعتمد على إصلاحات نقدية ومالية وتعزيز الشفافية والإفصاح وخاصةً مع ندرة البيانات المنشورة حول السياسة النقدية السورية ومؤشرات الاقتصاد السوري.
ويعيد إلغاء القيود فتح قنوات التمويل الدولي، مما يسمح بزيادة الاحتياطيات من خلال التحويلات والاستثمارات، خاصة في إعادة الإعمار، وزيادة التصدير في قطاعات مثل الإنشاءات وقطع الغيار، مما يغطي عجز الميزان التجاري ويبني احتياطيات قوية، وهذا يقلل الاعتماد على الاستيراد (70 بالمئة من الاحتياجات) ويحد من التضخم الاستيرادي، مع توقعات تحسن سعر الصرف خلال 6-18 شهراً.
وتوقع حاكم المصرف المركزي عبد القادر حصرية اندماجاً مالياً عالمياً، مع خطة حتى 2030 تركز على مكافحة غسل الأموال وتعزيز الثقة.
وختم قزّاز بالقول: تبقى معوقات مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي وشهادات الامتثال من التحديات التي تواجه تطبيق السياسة النقدية الفعالة، مع الحاجة إلى سياسات متوازنة لتجنب استنزاف الاحتياطيات بالاستيراد الزائد.
وإن في ذلك فرصة لاستقرار نقدي طويل الأمد إذا صاحبه تنشيط المشاريع الصغيرة وجذب أكبر عدد من البنوك العربية والأجنبية للعمل في السوق المصرفية السورية.
محمد راكان مصطفى