العناوين الرئيسيةسوريةسياسة

شركاء ضد داعش

تقترب نهاية تنظيم داعش عبر البوابة السورية، في لحظة إقليمية ودولية مختلفة جذريّاً عمّا رافق صعوده وتمدد «دولته» المزعومة قبل أعوام. فبعكس القراءات المتشائمة التي تروّج لتحوّلات التنظيم وقدرته على إعادة التموضع والعودة بأشكال أكثر تعقيداً، تأتي الوقائع السياسية والميدانية لتشير إلى مسار انحداري واضح، لا يقتصر على خسارة الجغرافيا، بل يمتد إلى تفكيك البنية الوظيفية التي سمحت للتنظيم بالتمدّد أصلاً.

ويعكس بيان وزارة الخارجية السورية، الذي جدّد التأكيد على «الالتزام الثابت بمكافحة تنظيم داعش وضمان عدم وجود ملاذات آمنة له على الأراضي السورية، ومواصلة تكثيف العمليات العسكرية ضده في جميع المناطق التي يهددها»، تحوّلاً في البيئة السياسية المحيطة بالملف السوري، حيث باتت مكافحة الإرهاب نقطة تقاطع لا خلاف عليها، داخليّاً وخارجيّاً.

وهو ما يجعل شلّ قدرات التنظيم أحد العناوين الأبرز للعام الجديد، على المستويين السوري والدولي.

صحيح أنّ المواجهة دخلت طوراً مختلفاً، فالتنظيم لم يعد يحكم مدناً أو يدير مؤسسات أو يفرض سيطرته العلنية، لكنه في المقابل لم يفقد بالكامل قدرته على الإزعاج الأمني عبر خلايا متنقلة وعمليات محدودة.

غير أنّ هذا التحوّل من «تنظيم دولة» إلى «تنظيم ظل» يُمثّل في ذاته اعترافاً بالهزيمة الاستراتيجية، مهما حاول أن يعيد تعريف حضوره أو يضخّم أثر عملياته.

وتشير بواعث التفاؤل إلى جملة متغيّرات حاسمة تصبّ في اتجاه نهاية التنظيم، في مقدّمتها الشراكة السورية المتنامية مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في مجال مكافحة الإرهاب، وتعميدها بالدم السوري الأميركي المشترك في عملية تدمر الأخيرة للتنظيم، وهي شراكة لم تعد محصورة في التنسيق غير المباشر، بل تتجسّد ميدانيّاً عبر عمليات مشتركة وضربات جوية دقيقة. كما أنّ انتهاء حالة الصراع الإيديولوجي الحاد التي شهدتها كل من سوريا والعراق، وتراجع التنافس الإقليمي والدولي الذي سمح سابقاً بغضّ النظر عن تمدّد التنظيم، أسهما في تضييق هامش المناورة أمامه.

وفي السياق ذاته، لا يمكن فصل انحسار التنظيم عن تفكيك المبرّرات الإيديولوجية التي تغذّى عليها. فاستعادة الدولة السورية لمساحات واسعة من سيادتها، وعودتها التدريجية إلى محيطها العربي والدولي، وتراجع دور قسد في الأفق السياسي، كلها عوامل تسحب من التنظيم ذريعة «الفراغ» و«الاضطهاد» التي استثمر فيها طويلاً. يُضاف إلى ذلك مسار اتفاقيات فكّ الاشتباك بين الدولة السورية وإسرائيل، وما تحمله من مؤشرات على تحوّل الصراع من مرحلة الفوضى المفتوحة إلى مرحلة إدارة النزاعات.

كما أنّ رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، بعيد إلغاء قانون قيصر، وانعكاسه على تحسين الظروف المعيشية، يسهم في تجفيف أحد أهم منابع التجنيد «الشبابي» للتنظيم، إلى جانب التدخل الأميركي المباشر لضبط الساحة العراقية، وإعادة إحكام السيطرة على الحدود، ولجم الفاعل الإيراني وتأثيره، بما يحدّ من الفوضى العابرة للحدود التي شكّلت بيئة مثالية لنشاط التنظيم.

وبقدر ما تكشف هذه التحوّلات عن نهاية «دولة داعش» بصيغتها السابقة، فإنها تعيد في الوقت نفسه تعريف طبيعة المواجهة المقبلة. فالمعركة لم تعد أمنية أو عسكرية فقط، بل باتت معركة بنيوية تتطلّب معالجة جذور الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وبناء ثقة محلية ومؤسساتية تقلّص أي بيئة حاضنة محتملة، وتمنع إعادة إنتاج التنظيم بأسماء أو لافتات جديدة.

في هذا الإطار، شكّّلت الضربات الجوية الأميركية–الأردنية المنسّقة مع الدولة السورية ضد مواقع تنظيم داعش أول اختبار عملي لترسيخ التعاون القائم، وخطوة انتقالية من مرحلة الصراع والعزل إلى مرحلة إدارة المصالح المشتركة.

إذ أصبحت مكافحة الإرهاب، وحماية القوات الأميركية، ومنع عودة الفوضى، مدخلاً واقعيّاً لإعادة إدماج سوريا تدريجيّاً في المنظومتين الإقليمية والدولية.

ويتزامن هذا المسار مع توصيف سياسي أميركي للقوات السورية بوصفها «قوات شريكة»، إلى جانب تصريحات للرئيس الأميركي دونالد ترامب أكّد فيها أنّ سوريا «تساند بقوة» العمليات ضد داعش، في إشارة واضحة إلى تغيّر مقاربة واشنطن تجاه دمشق في هذا الملف.

أما في العراق، فتبدو المؤشرات الميدانية أكثر رسوخاً. إذ أعلن نائب قائد العمليات المشتركة الفريق الأول الركن قيس المحمداوي أنّ «مؤشرات التسلل طوال عام 2025 ممتازة، ووصلت في كثير من الأشهر إلى صفر، لعدم تسجيل أي حالة تسلّل». وأوضح وجود تنسيق عالٍ بين مختلف القطعات الأمنية، من الجيش ووزارة الداخلية والحشد الشعبي والبيشمركة والأجهزة الاستخبارية، فضلاً عن تعاون واسع من سكان المناطق المحرّرة، الذين باتوا يُشكّلون خط الدفاع الأول في مواجهة أي محاولة لإعادة إحياء هذا التنظيم.

في المحصّلة، لا يبدو أنّ العالم يودّع داعش دفعة واحدة أو بضربة قاضية، لكن المؤكّد أنّ التنظيم يلفظ أنفاسه الأخيرة ضمن بيئة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، لم تعد تسمح له بالتمدّد أو الاستفادة من الفوضى. ومع تلاقي المصالح الدولية والإقليمية عند نقطة مكافحة الإرهاب، تبدو سوريا اليوم بوابة الخروج النهائي لتنظيم شكّل أحد أخطر تهديدات العقد الماضي.

باريس – محمد العويد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock