منوعات

قضية أديسون السوري: تعليم شعب.. لا غباء فرد … أبسط أفلام عبد اللطيف عبد الحميد نال ثلاث جوائز قرطاج

| نهلة كامل

ومضة شعرية

تجاوزت الرؤية الشعرية لـ«الطريق» مفهوم الدراما الاجتماعية فجاء فيلماً واقعياً يعرض بطريقة سينمائية ما هو أكثر من الواقع، كما قال جان كوكتو.

للمرة الأولى يشارك عبد اللطيف عبد الحميد كتابة السيناريو مع أحد، وهو من أهم مخرجي سينما المؤلف، لكن تكامل الكلمة مع الصورة في خيال المؤلفين كان لافتاً ومدروساً والسيناريو ومضة شعرية أتحدت بفطرية المكان وبساطة الذات في سينما عبد اللطيف وحافظت على شروط النبضة الاجتماعية والمسافة النقدية الساخرة لديه.

وقد أعطى المخرج كامل فضائه السينمائي لعادل محمود ليكون في عين البوم التي أصبح اسمها عين السرور، كما وصفها في إلى «الأبد ويوم»، بيت معزول يتوسط اتجاهات من الأحراش الخضراء، وأمامه طريق ترابي تمر عليه شتى أصناف الشخصيات الريفية المعزولة عن مفاهيم المدنية وخدماتها. ما جعلها مكاناً صالحاً لاعتماد الإنسان البسيط مدخلاً لطرح ومناقشة قضية لا تقتصر على فطرية المكان، بل نموذج بلا ظلال المجتمع الملوث بالإهمال والفساد والجهل الحديث، طالما أن السينما مكان لكشف التلوث الذي يعم الواقع برأي أنغمار برغمان.

وكلما كان المكان أنظف والفرضية أوضح والشخصيات أبسط كان العمل الفني أصدق.. يقول عبد اللطيف: هذا أبسط عمل قدمته في حياتي.

نبضة سينمائية

يستطيع المشاهد السوري والعربي فهم واستيعاب قضية تشكيل الإنسان وخلق ملكاته الإبداعية في فيلم «الطريق» بأسلوب يمس حياته الخاصة أكثر من قراءته لقصة الأميركي أديسون مخترع المصباح الكهربائي وآلة التصوير السينمائي والذي طرد من المدرسة بعد ثلاثة أشهر كطفل غبي ليتعلم في منزله ويصبح عالماً، والقصة مخزونة في ذاكرة كل سينمائي كعبد اللطيف عبد الحميد.

كادت الفكرة تكون غريبة عن المجتمع السوري لولا أن «الطريق» بنى عليها توتراً درامياً أصيلاً جعلها ومضة اجتماعية في صورتها السينمائية الذاتية، والشعب الذي لا يصنع صوراً عن ذاته محكوم عليه بالانقراض برأي جان كلود كايير.

هكذا راهن السرد السينمائي والتوتر الدرامي على صورة بيئته الذاتية لتحويل الفكرة التربوية الشخصية إلى رؤية فنية شاملة.

والفيلم الذي يبدو معزول المكان- بيت ريفي أمامه طريق- عزل الزمان أيضاً منذ بداية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لكنه لم يفعل هذا لعزل القضية عن المؤسسات المدنية بل لمحاكمتها في مخبر معقم الأدوات ليأخذ نتائج صحيحة، ولعل هذا ما يميز أغلبية أفلام عبد اللطيف التي اختارت الريف لمناقشة مفاهيم إنسانية رئيسة، وعادل محمود الذي اختار عين البوم لإعادة بناء الذات في صفاء الكون ورحابة البصر ونقاء المشاعر.

الفيلم يسيطر على زوايا الزمان والمكان إنما ليعطي الفكرة كامل وضوحها وصدقيتها.

فيختار في الجانب الإنساني مراهقاً في الثالثة عشرة من عمره يطرد من المدرسة لغبائه- جسده الفتى غيث ضاهر ببراعة عفوية- يعيش مع جده الأستاذ المتقاعد أبو صالح- وقد نال موفق الأحمد جائزة التمثيل عن دوره هذا- لتقديم قضية تجاوزت دلالاتها التربوية مجتمعها المنهار مؤسساتياً وغائب الذهنية النزيهة الخلاقة. ويبدو اختيار الزمان والمكان مناسباً من ناحية بداية انتشار المدارس في كل قرية سورية، وربما نهاية لمكانة جيل الأساتذة الكبار المعروف ببنائه التربوي ونشاطه التنويري في المجتمع السوري كافة والريف خاصة.

ونلاحظ أن الزمن ليس الآن- في ظروف الحرب- والأساتذة ليسوا معلمي الدروس الخصوصية، لكن الفيلم استطاع الدخول إلى قضية التعليم بتقديم الصورة المضادة والنموذج التربوي البديل.

الجد المنتمي إلى جيل الأساتذة يواجه مشكلة حفيده المطرود من المدرسة، ويجد لها الفيلم حلولاً غير تقليدية السرد السينمائي، مترجماً الرؤية الشعرية لعادل محمود التي تقحم الخيال في عالم الواقع- والتي كانت دائماً مؤشر الحداثة السينمائية- ليكون المجاز والاستعارة منهج ابتكار طريقة تربوية اعتمدت مبدأ الشفافية تجاه الحياة، وسيعمل الجد على تعليم حفيده أولاً من الحياة ذاتها، فيعطيه دفتراً وقلماً ويجلسه أمام الطريق طالباً منه تسجيل كل ما يرى من أحداث ونماذج بشرية تمر أمامه.

سيتعرف الصبي صالح على التجربة والأفكار والمشاعر والثقافة والإنسان على طريق الحياة، وحين تتسع مداركه وتتحفز مشاعره – بفضل الحب أيضاً- سيصبح إحدى شخصيات هذه الحياة، ويكون جاهزاً للدراسة من وسائلها وأدواتها النظيفة، سيعمد الجد أبو صالح لبيع قطعة أرض لديه ليبني غرفة مدرسية خاصة لحفيده- إعلاءً من الفيلم لمكانة التعليم على الملكية الخاصة، يعلمه فيها أساتذة ذوو كفاءة وإخلاص لتكون النتيجة تفوق صالح في الدارسة بل أيضاً حصوله على منحة دراسية خارج الوطن يعود منها إنساناً متفوقاً يكرس نفسه لخدمة مجتمعه، مترجماً أهداف سينما عبد اللطيف عبد الحميد الذي يصنع السينما مشاركة منه في تنمية العالم الذي يعيش به.

جائزة استجابة الجمهور

«الطريق» الذي تميز بومضة سينمائية استطاعت تجسيد حمولات ذهنية رفعت الفيلم من نوعه الاجتماعي التربوي إلى مستوى إنسانيته الشعرية وكونية قضيته الفكرية نال أيضاً جائزة الجمهور التونسي التي ترجمت استجابة مشاهد قرطاج، وأوضحت أن رسالة الفيلم تعدت مجتمعه السوري إلى العربي ايضاً.

أسلوب ملحمي

هل يقدم «الطريق» أسلوباً جديداً في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، ربما يقول شاهد إنها أجواء الطبيعة البكر والشخصية الريفية والحياة البسيطة، وهذا ما حافظ عليه «الطريق».

بالمقابل لابد من ملاحظة أن «الطريق» انتهج أسلوباً استقى أدواته من حقول سينمائية وشعرية ومسرحية شتى. ولم يلتزم التقليدية ولا التعليمية ولا التوعوية التربوية ولا حتى الواقعية وهو يتجاوز مفهوم الدراما الاجتماعية والتوتر السينمائي وصولاً إلى فيلم لا يشتت نبضته الإبداعية ولا يقتحم حدود الرؤية الشعرية التي بنى عليها عادل محمود.

وقد اعتمد عبد اللطيف على تقديم النموذج السينمائي والمكاني مستعيراً فكرة التغريب من المسرح البريختي. حيث تتوالى الشخصيات أمام صالح ممثلة معانيها الذهنية، ولا يخوض الفيلم جانبياً في سلوكها الفردي الخاص، وهذا ما يجب أن تراه عين صالح ليستوعب الحياة من خلاله، فيتعرف على معاني الأمومة من مرضعته البديلة، والحب من زميلته إلهام، والثقافة من الشاعر، والغضب والخيبة من مجموعة رجال تتزايد كل يوم، والبساطة من الرعاة والزوجة، والجنازة كدلالة على الموت والحياة.

وقد ساهمت الشخصيات الأحادية الجانب والمشهد الواحد والإضاءة الثابتة ومسرح الحدث دون تغييرات درامية في تغريب المفهوم والفكرة والإنسان. وقد تصرفت كل شخصية ضمن نموذجها ولم يدخل عبد اللطيف إلى أحراش الطبيعة ليضيف إلى الحدث انفعالات جوانية وتوتراً جانبياً وخيالاً شعرياً هائماً، ولم يصور أي صراع طبقي أو سلطوي كي تبقى الفكرة واضحة مكرسة لقضية ستكون نتائجها صالحة للحصول على بديهيات وفرضيات يمكن استخدامها في معادلات أخرى كزمننا الحاضر، حيث أصبح التعليم إحدى عثرات وأزمات المجتمع.. فالفيلم لا يحكم سلباً على التعليم بل على الذهنية والإهمال والفساد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock