العناوين الرئيسيةسياسة

“نصر بلا ثأر”: خريطة الطريق لسوريا الجديدة بعد انتصار الثورة 

منذ اللحظة الأولى للتحرير في 8 كانون الأول 2024، اختارت الدولة السورية طريقاً مفاجئاً للكثيرين، لكنه الأكثر انسجاماً مع حاجات مجتمع أنهكته الحرب والانقسام: طريق “نصر بلا ثأر”، هذه العبارة التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع من على منصة الأمم المتحدة لم تكن شعاراً تجميلياً، بل إعلان تحول جذري في الفلسفة السياسية لسوريا الجديدة، وتعاقداً أخلاقياً بين الدولة وشعبها، وبين سوريا والعالم، بأن زمن الانتقام انتهى، وأن العدالة ستكون محور المرحلة المقبلة.

 

هذا الخيار لم يولد من فراغ، فمعركة “ردع العدوان” التي أسقطت نظام الأسد البائد كانت في جوهرها، حدثاً عسكرياً وسياسياً غير متوقع، إذ فوجئ الثوار، بحجم الانهيار السريع في بنية النظام، ما اضطرهم للانتقال الفوري من منطق الثورة إلى منطق الدولة، وهنا ظهرت الحاجة إلى خطاب سياسي قادر على طمأنة الداخل وامتصاص أي مخاوف من الفوضى، وتهدئة الخارج القلق من مرحلة ما بعد نظام “آل الأسد”، فكان خطاب التسامح هو الجسر الذي عبرت عليه السلطة الجديدة نحو توحيد الجبهات ومنع الانفلات، وكبح نزعات الانتقام التي بدأت تطفو في بعض المناطق.

 

إن “نصر بلا ثأر” ليس فقط موقفاً أخلاقياً، بل سياسة دولة تنظر للمستقبل، وأدركت أن أي انتقام سيعيد إنتاج الانقسامات التي كادت تطيح بكيان سوريا، فالرئيس الشرع أكد بوضوح أن الجرائم لن تُمحى، لكنها ستُحاسب عبر مؤسسات العدالة الانتقالية لا عبر السلاح، وأن المقاربة الجديدة تفصل بين المجتمع السوري ككل، وبين فلول النظام المتورطين في الانتهاكات، فكان لهذا الموقف دور حاسم في تهدئة المخاوف ونزع فتيل احتمالات خطيرة كان يمكن أن تنزلق نحو دائرة دم جديدة.

 

وعلى المستوى السياسي، شكل هذا النهج الأساس الذي بُنيت عليه ترتيبات انتقال السلطة، فإلغاء دستور 2012، وحل مؤسسات النظام الأمنية والحزبية، ترافق مع الدعوة إلى مؤتمر وطني، وصياغة إطار دستوري جديد يضمن تمثيل كل المكونات السورية، وبذلك لم يُستخدم “النصر” كذريعة لاحتكار السلطة، بل كمدخل لتأسيس حكم يقوم على القانون والمواطنة، ويعيد بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الإرث الطائفي الذي صنعه النظام البائد على مدى نصف قرن.

 

أما اجتماعياً، فقد فتحت سياسة التسامح الباب لاندماج السوريين مجدداً في هوية واحدة، بعد سنوات من التقسيم الفعلي إلى مربعات نفوذ ومناطق متخاصمة، إذ أدركت السلطة الجديدة أن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم دون مصالحة اجتماعية حقيقية، ودون شعور كل السوريين (من عرب وأكراد وتركمان وسريان، من مسلمين ومسيحيين، من أبناء المدن والريف) بأنهم متساوون تحت سقف واحد، وأن سوريا الجديدة ليست ملكاً لطرف ولا غلبة فيها إلا للقانون.

 

ومع أن تحديات المرحلة الانتقالية لا تزال كبيرة، خصوصاً في ملف العدالة الانتقالية، وصياغة الدستور، وإعادة بناء الجيش والأمن، فإن خيار “نصر بلا ثأر” منح الدولة السورية فرصة نادرة، تؤسس لشرعية تستند إلى المصارحة وإلى شراكة وطنية جامعة، وبالتالي فان سوريا الجديدة ما بعد التحرير في 8 كانون الأول تدخل حقبة جديدة، عنوانها أن القوة التي لا تُترجم إلى عدالة وتسامح تتحول إلى عبء، أما القوة التي تُترجم إلى استقرار وطمأنة وبناء، فهي وحدها القادرة على صنع أفق دولة تستحق أن تولد من جديد.

 

الوطن

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock