اقتصادالعناوين الرئيسية

هل استبدال العملة يكبح التضخم؟.. أكاديمي يشكك ويطرح البدائل وتاجر يؤكد: الاستقرار النقدي ليس رفاهية اقتصادية

رأى الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، عبد الرزاق حساني أن السبب وراء لجوء المواطن السوري إلى الدولار الأميركي هو أن السوق السوري يغذى بكميات كبيرة من الدولار، وأصبحت هناك كميات كبيرة من الدولار، والسبب الآخر أنه عندما بدأت تتدهور قيمة الليرة السورية وارتفعت معدلات التضخم، لجأ المواطنون إلى تخزين الدولار والذهب كملاذ آمن بشكل آساسي. مضيفاً: بعد التحرير وجدت الحكومة نفسها أمام تحديات اقتصادية كبيرة لا يُستهان بها، وقال: صحيح إننا ننظر ولكن الواقع أعقد مما يتوقع.

ضبابية في القرارات النقدية

وقال حساني في محاضرة ألقاها خلال الورشة التي عقدت في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بالتعاون مع غرفة تجارة دمشق، بعنوان “استراتيجيات الإصلاح النقدي والاستقرار المالي في سوريا”: إن هناك ضبابية تحيط بموضوع حذف الأصفار من العملة السورية و”الدولرة”، حتى لدى صانع القرار في المصرف المركزي، ولا يوجد أي تفصيل أو توضيح من حاكم المصرف حول هذا الموضوع. وأكد أن “الدولرة” وحذف الأصفار هما قضية معقدة جداً، مشيراً إلى أن الدولرة تنقسم إلى نوعين: رسمية عبر اعتماد الدولار كعملة رسمية من المصرف المركزي، وغير رسمية كما هي الحال في سوريا، حيث يتم تداول ثلاث عملات أو أكثر، هي الدولار الأميركي والليرة التركية إلى جانب الليرة السورية.. وهناك عملات خليجية إلى حد ما.

غياب الثقة بالعملة المحلية

ولفت حساني إلى أن “الدولرة” تُعدّ تحدياً كبيراً، وسبب انتشارها في سوريا هو ضعف الثقة بالعملة المحلية، وعدم قدرة السلطة النقدية أو المصرف المركزي على رسم وتنفيذ سياسة نقدية فاعلة. مشيراً إلى أن أدوات السياسة النقدية في سوريا معطلة، ولا توجد قدرة على التحكم بالعرض النقدي أو الحفاظ على استقرار سعر الصرف والمستوى العام للأسعار.

تمويل العجز بالإصدار النقدي.. حل مؤقت يُفاقم الأزمة 

وأوضح أن العجز المُزمن في الميزانية العامة يتم تمويله عبر الإصدار النقدي، وعادة ما تدفع الأزمات السياسية الأفراد والشركات إلى البحث عن ملاذ آمن مثل الدولار، من أجل الوصول إلى مقياس جيد لقيمة الأموال.

مخاطر الدولرة: من فقدان السيطرة إلى تفاقم الفجوة الاجتماعية

ورأى حساني أن للدولرة عدة مخاطر، أبرزها عدم الثقة بالعملة المحلية، ومن الأسباب أيضاً عدم القدرة على إدارة السياسة النقدية بسبب عدم إمكانية طباعة العملة الأجنبية أو التحكم بمخزونها، ما يؤدي إلى فقدان السيطرة على المعروض النقدي من العملة الأجنبية. كما أن الدولرة تسببت بتشوهات سعرية وفجوة طبقية كبيرة، حيث يسعّر التجار بضائعهم بالدولار، بينما يتقاضى الموظفون رواتبهم بالليرة السورية. مشيراً إلى أن الدولرة تزيد من مخاطر النظام المصرفي، وترتبط بالقرارات الصادرة عن البنوك المركزية الأجنبية، فضلاً عن ارتفاع تكاليف المبادلات المالية ومشكلات في العقود والمعاملات نتيجة تفاوت الأسعار.

حذف الأصفار.. تغيير شكلي لا يعالج جوهر الأزمة 

وفيما يخص حذف الأصفار، أوضح حساني أنها عملية تخفيض اسمي لفئات العملة بقرار رسمي، وما يُطرح من تصريحات بهذا الشأن لا يعدو كونه إعادة تسعير لليرة السورية من دون تفاصيل واضحة. وقال: سمعت أن المركزي ينوي حذف صفرين أي الـ5000 ستصبح 50 ليرة والـ2000 تصبح 20، متسائلاً: كيف سيتم التعامل مع الفئات الصغيرة متل 100 و50 والـ25، وبالتالي هناك قضايا فنية تجب معالجتها بشكل كبير، ونحن لا نعرف الحقيقة حتى الآن لا كاقتصاديين أو جمهور عام.

وأكد أنه لا يثق بأن استبدال العملة سيؤدي إلى خفض معدلات التضخم، مشيراً إلى أن هذه العملية تنطوي على تكاليف كبيرة، ولا تؤثر في جوهر الاقتصاد، إذ إن التضخم مرتبط بالأداء الاقتصادي العام، خاصة القدرة الإنتاجية للقطاع الوطني. وشدد على أن حذف الأصفار من دون برنامج إصلاح شامل لن يحقق نتائج مستدامة، بل سيؤدي إلى عودة التضخم مجدداً.

ورأى أن الهدف هو لغايات تشغيلية وتسهيل العمليات المحاسبية، ومن الأهداف تحسين الصورة الذهنية عند المواطن، مضيفاً: أستشف هدفاً رئيسياً من إطلاق العملة الجديدة هو إطلاق هوية بصرية جديدة للعملة، لأن الفئات النقدية تحمل رموز النظام البائد، والشعب لديه في خلفيته الفكرية أن هذه الفئات مرتبطة بتدهور مستوى معيشته وهذا يتطلب تغييراً.

ولفت إلى التكاليف الكبيرة المترتبة على استبدال العملة من تكاليف طباعة أو إعادة برمجة برامج وصرافات.. وهناك تشريعات فنية يجب أن تؤخذ في الاعتبار والإعلام والتوعية وتثقيف الجمهور، معتبراً أن الحكومة مقصرة بذلك.

الشفافية النقدية: مفتاح الثقة والاستثمار 

وأكد حساني أن السياسة النقدية الشفافة والمبنية على المصداقية توفر توقعات تضخمية جيدة تتيح للمستثمرين اتخاذ قرارات سليمة، أما غياب المصداقية في السياسة النقدية وقرارات سعر الصرف، فإنه يزعزع الثقة بالنظام المصرفي والمؤسسات المالية، ما يعوق إعادة بناء الثقة بالليرة السورية الجديدة.

إجراءات عاجلة: تعزيز السيولة وتنظيم التسعير 

وبعد هذه النظرة القريبة للتشاؤم دعا حساني إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تبدأ بتعزيز الثقة بالعملة المحلية عبر توفير السيولة بالليرة السورية، والابتعاد عن سياسة حبس السيولة التي تتبعها الحكومة حالياً، مقترحاً بدلاً من ذلك تحديد سقوف لبعض الودائع للأفراد والشركات وضمانها، مشيراً إلى أن بعض البنوك كادت تصل إلى مرحلة الإفلاس وتم إنقاذها عبر عمليات دمج. كما شدد على ضرورة تنظيم سياسة التسعير بدلاً من فرض رقابة مشددة على الأسواق، من خلال إلزام التجار بتسعير المنتجات السورية بالليرة المحلية.

الحد من المضاربات: ضبط السوق واستقطاب الحوالات 

ومن الإجراءات العاجلة أيضاً، اقترح حساني الحد من المضاربات بالعملة الأجنبية عبر استقطاب الحوالات من خلال القنوات المصرفية المرخصة، مشيراً إلى وجود صرافين غير مرخصين حتى أمام المصرف المركزي، ما يستدعي تجديد الرقابة على شركات الصرافة والطيران ومحال الصاغة التي تحتفظ بمبالغ ضخمة بالدولار، وهو ما يعكس خللاً في إدارة مراكز السيولة من المصرف المركزي.

إصلاحات طويلة الأجل: استقلالية المصرف المركزي ومكافحة الفساد 

أما على المدى الطويل، فقد شدد حساني على ضرورة تصميم وتنفيذ برنامج شامل للإصلاح الاقتصادي يعزز الانضباط المالي وكفاءة إدارة المالية العامة التي تستهدف معالجة العجز في الميزانية واستدامة الدين العام. وأوضح أن المشكلة ليست في حجم الدين، بل في مدى انسجامه مع النمو الاقتصادي، وقدرة الاقتصاد الوطني على تحمل تبعاته. كما طالب باستقلالية السلطة النقدية، بحيث لا يُجبر المصرف المركزي على تمويل العجز أو شراء سندات الدين العام، مستشهداً بتجربة لبنان كمثال على مخاطر غياب الاستقلالية. واختتم حساني حديثه بالتأكيد على أهمية تنفيذ إصلاحات مؤسساتية تشمل تعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، وتنظيم حملات إعلامية، ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات التي تضع الاقتصاد السوري على طريق التعافي الحقيقي.

الاستقرار النقدي.. مفتاح إنعاش الاقتصاد السوري

في زمن الأزمات الاقتصادية التي تعصف بسوريا، يبرز مفهوم الاستقرار النقدي باعتباره المدخل الأهم لإعادة التوازن، بل ربما الأمل الأخير في استعادة الثقة بالاقتصاد الوطني. هذا ما أكد عليه محمد الحلاق، نائب رئيس غرفة تجارة دمشق السابق، خلال محاضرته الأخيرة التي تناول فيها أثر الاستقرار النقدي على التجارة والأسعار، مستنداً إلى خبرته في الشأن التجاري والاقتصادي.

غياب الإدارة الرشيدة للقطاع النقدي

رأى الحلاق أن النقد ليس مجرد أوراق مالية متداولة، بل هو العمود الفقري للاقتصاد الحديث، إذ يشكّل وسيلة للتبادل ومخزناً للقيمة ووحدة للحساب، إضافة إلى كونه أداة لتنظيم السياسة الاقتصادية. إلا أن غياب إدارة رشيدة للقطاع النقدي خلال السنوات الماضية زمن النظام البائد، ووقوع السياسة النقدية فريسة للتخبط والفساد، أديا إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة بلغت نحو 36.8% سنوياً حتى مطلع عام 2025. ومع انهيار الثقة بالليرة السورية اتجه الأفراد والتجار نحو الاعتماد على الدولار والذهب والسوق السوداء، ما أدى إلى نشوء اقتصاد موازٍ يسيطر تدريجياً على حركة التداول.

التشدد في السياسة النقدية سلبي على الإقراض والتمويل

ويشرح الحلاق أن العلاقة بين القطاعين النقدي والمالي وثيقة وعميقة، فالقطاع النقدي يوفّر السيولة اللازمة، بينما يوسّع القطاع المالي دور النقد عبر تحويله إلى أصول واستثمارات طويلة الأجل. لكن التشدد في السياسة النقدية عبر رفع أسعار الفائدة، أو تقييد السيولة داخل المصارف، انعكس سلباً على الإقراض والتمويل. وقد زادت الأزمات الإقليمية، مثل انهيار البنوك في لبنان، من حدة الأزمة محلياً، إذ تراجعت الثقة بالنظام المصرفي السوري إلى أدنى مستوياتها.

تحديات وحلول جزئية

أما أبرز التحديات الراهنة فتتمثل في نقص السيولة داخل البلاد، وهو ما انعكس على طوابير الرواتب الزهيدة وتعطل النشاط التجاري والمصرفي. ورغم محاولات الإصلاح من خلال سياسات مثل “الإيداع الفريش” أو إسقاط الأصفار من العملة، إلا أن هذه الإجراءات لم تكن كافية ولا متكاملة، بل بقيت حلولاً جزئية لم تلامس جوهر الأزمة. في المقابل أصبحت تحويلات المغتربين، التي يعتمد عليها نحو ستة ملايين سوري في الخارج، المصدر الرئيسي لتدفق العملة الصعبة، بينما فرضت العقوبات الاقتصادية قيوداً صارمة على حركة رؤوس الأموال، ما أجبر الاقتصاد الوطني على الاعتماد المتزايد على السوق الموازي وحتى على أنشطة غير مشروعة.

تأثير نقص السيولة على قطاع الأعمال

ويشير الحلاق إلى أن قطاع التجارة، الذي يشكل ما يقارب 63% من الناتج المحلي الإجمالي، كان من أكثر القطاعات تأثراً بنقص السيولة، حيث ارتفعت تكاليف التبادل التجاري وتراجعت الواردات والصادرات، مع زيادة الاعتماد على التهريب والأسواق غير الرسمية. ولم تكن القطاعات الإنتاجية في حال أفضل، إذ تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة تتراوح بين 10 و15% نتيجة توقف المصانع وارتفاع تكاليف المواد الأولية، بينما أدى تراجع الإنتاج الزراعي والطاقة إلى تدهور أعمق في قدرة البلاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي.

وانعكست هذه الأزمة مباشرة على الواقع الاجتماعي، حيث وصلت معدلات البطالة إلى نحو 50% في القطاعات الإنتاجية، بينما بات 90% من السكان تحت خط الفقر، وهو ما جعل الأمن الغذائي مهدداً بشكل خطر. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل فقدت المنتجات السورية قدرتها التنافسية في الأسواق الإقليمية، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج بنسبة قاربت 25%، ما زاد من الاعتماد على الواردات، وعمّق العجز التجاري.

الإصلاح الاقتصادي الجاد يبدء بالاستقرار النقدي

ويرى الحلاق أن أي إصلاح اقتصادي جاد لا بد أن يبدأ من تحقيق درجة من الاستقرار النقدي، عبر تثبيت التوقعات وخفض التضخم وتحفيز الاستثمار والإنتاج، وصولاً إلى تحسين القوة الشرائية والحد من توسع السوق السوداء. ويشدد على أن الأمر يتطلب حزمة إصلاحات متكاملة لا مجرد حلول منفصلة، إذ إن أي معالجة مبتورة ستبقى عاجزة عن إحداث تغيير حقيقي.

وفي الخلاصة، يذهب الحلاق إلى أن الاستقرار النقدي ليس رفاهية اقتصادية، بل هو شرط وجودي لإنقاذ ما تبقى من قدرة المجتمع السوري على مواجهة التضخم المفرط وضمان حد أدنى من العيش الكريم، فمن دون استعادة الثقة بالعملة المحلية، ومن دون سياسات نقدية ومالية منسقة، سيبقى الاقتصاد السوري رهينة دوامة التضخم والركود وانتظار ما يشبه المعجزة.

محمد راكان مصطفى ـ رامز محفوظ

زر الذهاب إلى الأعلى
الوطن أون لاين
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock